رواية منازل العطراني.. قراءة في ماوراء النص
جون العتابي
إن قيمة العمل الإبداعي لاتقف عند حرفة المبدع وتمكنه من أدواته الكتابية المختلفة فحسب بل تعد الأبعاد الأخرى غير المرئية التي يتناولها الكاتب في سردياته والتي تشكل مجموعة من أسئلة القارئ الفطن والإثارات التي تختلج في ذهنه هو مايمكن أن يطلق عليه ب( ماوراء النص) ، أي تلك المقاصد التي بات النص يحتويها كمقدمات مطوية من دون أن يظهرها الكاتب لا تصريحا ولا تلميحا لسبب أو لآخر.
وأحسب أن هذه مهمة كبيرة لا يقدر على ضبط أيقاعها أي كاتب إلا من أمضى وقتا طويلا يستلهم أبجديات العمل الإبداعي المتنوع قراءة وكتابة متوفرا على تجارب كبار الأدباء والنقاد والإطلاع على أنماط السلوك الإنساني والإجتماعي والممارسات الحياتية الأخرى .
ولعلي لا أجامل الكاتب د.جمال العتابي حين أجده قد نجح في توظيف أدواته وجداراته الكتابية وإمكانية التصوير الفني وقابليات التخيل لديه وهذا المتراكم الكمي من المعايشات المختلفة لحقبة زمنية تعد من أخطر وأهم الحقب في تأريخ العراق الحديث.
لم تكن ( منازل العطراني) وهي الرواية الأولى للكاتب تجربة واقعية فنية إبداعية وضعت في سياق الإختبار ليسجل الكاتب من خلالها إسمه في سجل النتاج الروائي العراقي فحسب بل كانت الرواية عبارة عن شهادة كاملة الأركان بالعين والأثر في مجرى محاكمة جادة وواقعية لأهم الأحداث التي صاحبت مجريات التحول السياسي في العراق وتقلبات مناخ هذا التحول السريعة والمرعبة في آن واحد.
تناولت الرواية بعض تلك الأحداث التي شهدها العراق بعد قيام الجمهورية الأولى وبداية العمل السياسي بعد نهاية فترة الحكم الملكي أواخر خمسينات القرن الماضي وتمدد هذا العمل والنشاط إلى المدن الصغيرة وقصبات الريف بعدما كان هذا العمل يكاد يكون منحصرا في المدن الكبرى .
كان ( محمد الخلف ) أحد أبناء الفلاحين الفقراء الذين لا تختلف أحوالهم عادة فكان الفقر والعوز والإضطهاد ظواهر طاغية في حياتهم بالإضافة إلى هيمنة الإقطاع على مقدرات هؤلاء الفلاحين في أغلب مناطق العراق ، ومن بين ركام هذه المحن استطاع زاير علي حمد الخلف من تمكين ولده ( محمد الخلف ) من الدراسة الإبتدائية في إحدى المدن ثم دار المعلمين الريفية في بغداد .
لم يتأخر المعلم الشاب محمد الخلف في دخول تجربة العمل السياسي وخوض غمارها مندفعا بروحية أهل الريف ودوافع الفقر والإضطهاد الذي يعانيه متأثرا بصوت يسمعه من بعيد كأنه الصدى بل لم يكن غير صدى لكنه ورفقته ظلوا يصرون على المواصلة طالما أن زعيم الثورة الملهم لازال يمارس الخطاب ويعد ويتوعد والهتاف يعلو ( يسقط .. يعيش ) وهكذا تبقى اصوات أبناء العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة دائما تذكي الشرارات الأولى للثورات والإنقلابات ثم تكون هي أول المحترقين بها .
ينتبه محمد الخلف أخيرا حين يجد نفسه في قفص الإتهام في المجلس العرفي متهما بشتم الزعيم ومن هنا تبدأ أحداث الرواية، أراد المحقق أن يختبر ولاء محمد الخلف للزعيم الأوحد فيطلب إليه شتم أحد الرموز التي يراها مقدسةً لديه ، فتأبى مروءته أن يفعلها وهو إن فعلها واستجاب لطلب المحقق فهي الخيانة الكبرى في نظره والكفر بعينه .
لم يدرك محمد الخلف حينها أن السياسة ( فن الممكن) كما يراها رفيق دربه وصديقه المعلم عبد چياد الذي وضع هو الآخر في قفص الإتهام أيضا مأخوذا بنفس التهمة فأخذ يسخر أمام رئيس المجلس العرفي من مزاعم الإتهام بطريقة ذكية مكنته من الإفلات من حكم مؤكد بعدما جعل المحكمة تضج بالضحك، فأطلق سراحه وهو غير مصدق .
كان محمد الخلف متأثرا بعمه الشيخ حيدر الذي علمه القراءة والكتابة في مدرسة الكتاتيب التي أسسها الشيخ في قريته النائية وقد حفظ عن عمه أغلب ما سمعه عنه ، وحين أُدخل محمد الخلف بوابة السجن تذكر ما كان نسيه عن عمه حين ذكر مقولة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إذ قال :
ألا وإنه ( أي معاوية) سيأمركم بسبّي والبراءة مني فأما السب فسبوني وأما البراءة فلاتتبروا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة. تلك المقولة التي ذكرها عمه الشيخ مثالا وهو يتكلم عن مبدأ التقية الذي يكرره دائما في أحاديثه والذي يوصي به كفن للتعامل مع الآخر المختلف من دون أن يغير ذلك من قناعات الإنسان وإعتقاداته كما فعل الصحابي عمار بن ياسر ذلك مع المشركين حين أمروه بالنيل من الدين الجديد ومن نبيه المبعوث ، يسرد الشيخ هذه المقولة في معرض كلامه عن التعامل مع جبروت الأقطاع وملاك الأراضي والتخلص من شرورهم . وفي الوقت نفسه تداعت امامه صورة أمه( في لحظة استذكار ودفء ومناغاة ، عفوك الآن ياأمي ، كان أحرى أن أصلي لك صلاة المستفيقين ياضوع خزامى وبخور ودعاء فلتباركك السماء ولتبارك ترنيمتك الأولى ) .
يأخذ الشوق بمحمد الخلف إلى أمه فيقول لإبن أخته عباس: (كم بي من الشوق لأمي ياعباس تحضر معي في هذه العزلة ، طالما أستعيد ترنيمتها _ خلي سلاتين يسلتكم _ ترددها كنوع من العتاب لإبنها وهو منصرف عنها للعمل السياسي ، تختصر أشواقها ولوعتها فتسخر من ستالين ب ( سلاتين ) ، هي متأكدة من إسمه لكنها تتوعدنا بالأقدار حين نولي وجوهنا التيه وتضيع البوصلة ، ترددها بسخرية مريرة لم اكتشف معناها إلا حين أدركت أن أمي التي لا تقرأ ولا تكتب « تفهم « حركة التاريخ أفضل مني ) .
ما أشبه أم محمد الخلف بتلك العجوز صاحبة المغزل التي سألها أحدهم : كيف تؤمنين بالله وأنت لم تشاهديه بعينك ؟! فأجابت : لقد عرفت الله بهذا المغزل، كيف؟ سألها مرة أخرى .. قالت لازال يدور ويتحرك طالما هو في يدي أديره بأصابعي فإن أنا تركته توقف عن الحركة والدوران ، وهذا الكون الوسيع المتحرك دائما المترامي الأطراف إن لم تكن له يد تحركه وترعاه لتوقف كمغزلي حين اتركه فما يحركه إلا الله . وحين نقلت الحكاية إلى النبي عليه السلام قال : عليكم بدين العجائز - أي دين الفطرة والوجدان - .
تلك هي البوصلة التي ثبت عليها زاير علي بن حمد الخلف وزوجته ام محمد الخلف والشيخ حيدر التي أدركها محمد الخلف عند بوابة سجن الكوت فأدرك حينها أنه التيه وضياع البوصلة ، فيقول : ( أخطاؤنا السياسية والميدانية أسهمت في تبدد الآمال وفشل التجربة ، من الصعب إختصار أسباب الخسارة ، القوى السياسية جميعا تتحمل النتائج القاسية التي ألحقت الضرر بالمشروع الوطني ومستقبل البلد ) .
هنا وبهذه الكلمات عاد محمد الخلف إلى إدراك الحقيقة حين شخّص بحكمة ودقة المرض العضال (المزمن ) فمن الصعب حقا أن يختصر أسباب الخسارات والانكسارات التي تسببت فيها جميع الأحزاب السياسية وهي تتصارع فيما بينها في حلبة الغالب والمغلوب ( يسقط .. يعيش...يعيش يسقط) والطاحونه مستمرة لاتتوقف تطحن الأشلاء والعظام والجماجم ومعها جميع الآمال والتطلعات والثروات والمقدرات ولاتقف عند حد طالما وقف الإنسان خلفها يغذيها بجهله وطمعه بمنظور قصير وأفق ضيق .
و ( ...كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها..) ولم يؤثر الصوت القريب فضلا عن الصدى الآتي من بعيد في محمد الخلف لكي يلملم بقاياه المشتتة وهو ينظر إلى خطوط الأفق البعيد لعل الشمس تبزغ من بين ركام الغيوم الداكنة ومن حوله رفيقه وصديقه العتيد ( تركي) حين يقرأ في وجهه تقلبات الطقس السياسي المتغير ، فقد أضحى شارب تركي محرارا يكشف عن طبيعة المتغيرات السياسية المتسارعة فهو تارة يترك شاربه طويلا متشبها بالزعيم السوڤيتي (ستالين) قائد البروليتاريا العالمية ورمزها ويقصره تارة أخرى كما هو شارب القائد النازي الألماني ( هتلر ) حينما يداهمه الخوف فيتجرد عن طموحات البروليتاريا وأفكارها فهو المعلم ومدير المدرسة ( البرجوازي الصغير) لاشأن له بطبقة العمال والفلاحين الكادحين .
تلك ( الحقيقة المرّة للتراجع أدركها تركي مبكرا فاستجاب مسرعا بحلاقة شاربه الستاليني متشبها بشارب هتلر ، خيبة كبيرة وإحباط شديد تبددت احلام لم يواجهها محمد الخلف وحده بل هي أزمة جيل عاصر التجربة وواجه كل تحدياتها ) .
وبقي محمد الخلف إلى نهايات عمره يردد كلمة ( الغوث ... الغوث) كما ينقل عنه ولده عادل - المشاكس الفطن - حتى إنحنى ظهره وبأن عليه الإنكسار حين استلم ( شهادة إعدام ) ولده - عامر- ولم يستلم جثمانه ابدا، لتكون هذه الشهادة آخر الإنكسارات وأعظم الخسارات .
بهذا الإسلوب السردي من السهل الممتنع وبهدوءه المعتاد من دون أن يخدش خاطرا أو أن يطعن تأريخ جهة أو فئة سجل الكاتب د. جمال العتابي موقفه من مجريات هذا التاريخ مشخصا اسباب ماسماه بالتيه وضياع البوصلة على لسان بطل روايته حين يقول : ( القوى السياسية جميعا تتحمل النتائج التي ألحقت الضرر بالمشروع الوطني ومستقبل البلد ) ولا أظنه في عبارته هذه ينظر لفترة تأريخية محددة بل تشمل المنظور وغير المنظور من الزمن الماضي والحاضر والآتي ، فلم يوضع الأساس على أرض صلبة حتى تطاول البناء ومعه دائما اسباب إنهياره .