الدليمي.. يسبح مجازا بلباس القمر الصوفي
غادة علي كلش
نبدأ بمقاربة قصيدة الشاعر رياض الدليمي بتفنيد عنوانها الدّال بكلماته الثلاث على مكنونها، وهو “ أسبح في العدم”.
أولا: مفردة السباحة تعني الإبتعاد، فالسبح في اللغة هو فعلُ مباعدة الشيء عن الشيء الآخر، فبدء البوح في أبيات الدليمي هو بدء السبح بعيدا من عاديات المكان الجغرافي المثقل بديموغرافيته، وبعيدا من التاريخ المعاصر المطعون بغوغائيته، وبعيدا أيضا من الفؤاد المكابِد الباحث عن لوحة جديدة تجمع بين الإنطباعية والطبيعية والتجريدية والتفكيكية، كما تجمع في البحث عينه، بين التراث والتراب، وبين الكون واللون، وبين أسطورة العَرَاقة وأكذوبة العرّافة.
ثانيا: حرف الجرّ “في”، يختلف بالمعنى عن حرف الجرّ “من”، فسباحته ليست من العدم، بل فيه أي بداخله، وهو خوض وجودي قد يقارب مفهومين: مفهوم الفناء، ومفهوم الخلاص.
ثالثا: مفردة العدم تندرح تحت القسم الثالث من أقسام العقل الثلاثة وهي:
-1الواجب العقلي.
-2المستحيل العقلي.
3-الممكن العقلي.
والممكن العقلي هو ما يُتصور في العقل وجوده طورا وعدمه طورا آخر، كسائر المخلوقات. وبذلك ينطلق الشاعر بهذه المفردة إلى رحلة العقل عبر مركبة الشعر نحو محاولة سبر أغوار الموجود والمعدوم، وأيضا نحو اختبار مفاجأة الوجود بعد العدم في هذه الحياة، ومعاينة خبر إنعدام الوجود عن هذه الحياة.
وبالدخول إلى عرين القصيدة، نجد إنّ الصورة المستعارة في أبيات الدليمي، تختصّ القمرَ، وتبتعد من النمطية التقليدية في توصيفه، أي تلك النمطية التي تستلّ منها أقلام الشعراء، بالعادة، أوصافها التصويرية، من دلالات الجمال والشوق والسهر والجوى. إنها تسبح وتبتعد وتمضي، لتتجه صوب أسرار الصوفية والدوران الإستكشافي الداخلي للنفس، في محاولة لإستكشاف مخابىء العقل ومكاشف القلب ومسائل الوجود.
نختارمن أبيات قصيدته هذه:
“كيف سيسعفني القمر؟
هو فانٍ مثلي بلباسه الصّوفيّ
زاهد في الأعياد”
من هنا، فقد رمى الدليمي صورته الكيانية الإنسانية على “كاهل” القمر، وتلك بكل بديهية، رمية صورية مجازية غير تماثلية، قام بها الشاعر، كي يرى أمام عينيه وداخل كشّاف البدر الضيائي التماثلي التخايلي، غراسا لا تشبه وردة اللوم واليأس والأمل والذكرى، غراسا تنتمي إلى تربة ضوئية تعبيرية واحدة، تشكل بمتناقضاتها، حال الرامي نفسه وخطابه ونجواه في القصيدة.
وهاهو ينشد أيضًا:
“أضرب الدّف حتى لحظة المحاق
ينام المغني الفارسي
نعزف لحنا مسروقا
من أغاني فلاحي شيراز”
ويقول أيضا:
“هربت من صراخ القصب
ورئة ألوان الهور”
إنّ مفردات ثقوب الناي، والدّف، والفارسي، والشيرازي، والهور، والفلاّح، والمخاض. كلها تيّمات تحمل في قصيدة رياض الدليمي مفاتيح رمزية ووجودية متداخلة الإنتماء والإنعتاق، وذلك ضمن جوهر دلالي متشابك ومتفرّد معًا، بحيث يحتاج منّا هذا الجوهر، متابعة تفصيلية إلى كل مفتاح منها، كي نصل إلى الأبواب المنشود فتحها لرؤية ما وراءها، وما تكتنزه من إمارات الرويّ والترميز والمواربة والإيماء.لا شكّ في أن الابعاد الوجودية والوجدانية والفنية والعاطفية والسياسية المتاحة في القصيدة، لا يمكن حصرها بمقالة، لكنّ ختام البوح، يبدأ عند الدليمي ولا يُخْتتم، فقد سأل الشمس إنْ نسيت ذاكرته، مُلمّحا إليها بخطاب المجاز أنها سوف تجد في أسرار النجوم شيفرة هذه الذاكرة.
كما إنّ إفتتاح البوح لديه، إختُتِم بمخاطبته للأنا: “ إنساني، يا