شاكر علي التكريتي.. درس في قوة المنطق
بيروت - محسن حسين
خلال عملي الصحفي تعرفت على صحفيين كبار ومن بينهم المرحوم شاكر علي التكريتي. كان شخصية رائعة.اليوم عثرت على مقال عنه كتبه عماد عبدالكريم عيسى يستحق ان يطلع عليه الاصدقاء ومحبي مهنة الصحافة:
في منتصف أربعينات القرن الماضي كان الصحفي الراحل شاكر علي مديرا لمدرسة ابتدائية في مدينة العمارة ، كانت المدارس بصورة عامة تعاني قلة المعلمين ، وكان أكثر ما يشغل بال المدير هو مصير الصفين المنتهيين ، وبعد عدة مراجعات إلى المديرية والوزارة تأكد من عدم وجود إمكانية لرفد المدرسة بمعلم واحد . كان الأمر يقض مضجعه ، ويقلق تفكيره لعدم وجود معلم مختص في تدريس القرآن الكريم والعلوم الإسلامية لصفي السادس ، والأيام تتوالى والزمن يسير ولا يتوقف ، فحسم الأمر بنفسه واتخذ قرارا جريئا ، وغريبا ، فكلف أحد المعلمين ( اليهود ) ممن يتميزون بخبرة عالية في اللغة العربية بتدريس القرآن للصفين المنتهيين ، فقبل التكليف وقام المدير بنفسه بتغطية الحصص التي تركها المعلم ، وسارت الأمور على هذا النحو. أبدى المعلم اليهودي نزاهة وإخلاصا في أداء الواجب ، وبمهنية عالية وجهدا إضافيا ولكونه يمتلك خبرة ممتازة في اللغة العربية ، وكانت المفاجأة في النتائج ، لقد حقق نسبة نجاح مئة بالمئة.قليل جدا من المدارس التي تحقق هذه النسبة ، فاستحق هذا المعلم التكريم من قبل وزير المعارف ، وعليه الحضور ( مع المدير بتاريخ محدد).وقد حضر الإثنان في الوقت المقرر .
كان ديوان الوزارة أو مكتب الوزير عبارة عن قاعة كبيرة ، تحوي عشرات الكراسي والأرائك وتغص بعشرات المراجعين ينتظرون دورهم ، من ضمن المراجعين بعض علماء الدين ، الذين تعاقدوا مع الوزارة لتدريس القرآن.
وعندما علم الحاضرون بقصة التكريم وبأن معلم القرآن يهودي استغرب البعض ، وتعجب آخرون ، واعترض أحد رجال الدين على الأستاذ شاكر قائلا : كيف تسمح لمعلم يهودي بتدريس القرآن ؟ ألم تقرأ قوله تعالى : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لايمسه إلا المطهرون ) ؟ .... لقد أتيت أمرا لم يات به أحد قبلك .
فخيم على القاعة صمت رهيب ، وظن الجميع بأن رجل الدين قد وضع المدير في موقف حرج ، لايحسد عليه.
كان الأستاذ شاكر مثقفا ، بمعنى أنه كان واعيا لكل مايقوم به من أفعال وفيما يتخذ من قرارات ، ويحسب حسابه لكل خطوة ، وربما كان يتوقع مثل هذا الإعتراض . إضافة إلى أنه يمتاز بحدة الذكاء وسرعة البديهية. فنهض من مكانه وكسر الصمت ، وألقى على الحاضرين كلمات يمكن أن تدرس وتعلق في علم المنطق فقال :
أيها الشيخ : كنت أعتقد بأننا نتعلم منك الدين والحكمة قبل أن تعترض على هذا القرار ولكن دعني أوضح لك بعض الأمور : فأنا مدير مدرسة ، والطلاب أمانة في عنقي ، ومن واجبي الإشراف على تعليمهم وتحقيق نجاحهم باستخدام كافة الوسائل المتاحة ، فأنا مضطر لاتخاذ هذا الإجراء ، والله تعالى يقول : ( من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) .... البقرة 173. ثم إني سلكت سلوك النبي نفسه حين اشترط على أسرى قريش من المشركين في بدر أن يعلموا عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة مقابل إطلاق سراحهم . فهل تعتقد أنهم كانوا يعلمونهم الفلسفة أم قراءة القرآن الكريم؟ ولنفرض بأنهم كانوا لايعلموهم القرآن ، ألم تقرأ في التاريخ والسيرة النبوية رسالة النبي إلى هرقل ؟ لازلت أحفظها فاسمعها جيدا :
من محمد عبد الله ورسوله
إلى هرقل عظيم الروم
أما بعد. سلام على من اتبع الهدى ، إسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم الأريسيين . ثم ضمنها الآية : ( قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بَعضُنَا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) .... آل عمران 64.
فهل تطهر هرقل قبل أن يقرأ الرسالة ؟ وهل نكذب الشاهد ؟ ونكذب ماتراه عيوننا ؟ أم نكذب القرآن ؟ لا هذا ولا ذاك لأن الله لايقول إلا حقا . ألست ترى من هذا أن القرآن يمسه غير المطهرين وربما الكافرون أيضا ؟ فقد اختلف العلماء في تأويل الضمير الوارد في الآية واختلفوا في تأويل الآية نفسها ، فقسم يرى المطهرون هم الملائكة حصرا ، ولو أراد الله بذلك الإنسان لقال المتطهرون .
وبدأ بتصعيد النبرة فأضاف : ولكونك رجل دين تعلم الناس عليك التمييز بين ممارسة المهنة وبين الإنتماء إلى دين أو عقيدة . فإذا أردت الحج إلى بيت الله بالطائرة وكنت تريد الإطمئنان على سلامتك ، فستسأل عن كفاءة الطيار وليس عن دينه ، وإذا مرضت ستبحث عن الطبيب المختص وليس عن عقيدته ، وكذلك التعليم فإنه مهنة لاتختلف عن بقية المهن .ولو كان أحد أبنائك تلميذا في الفصل لشكرتني على هذا الإجراء بدلا من أن تعترض . فعلى رجل الدين أن يتعلم شيئا عن التأويل ، قواعد اللغة ، ومنطق الفكر ثم يبدأ بتعليم الآخرين .....
وتركه وسط ذهول الحاضرين وإعجابهم من قوة الرد وشدة الجواب .
هذا مانسميه قوة المنطق ، وهو من فعل الثقافة ، الذكاء ، سرعة البديهية ، والفصاحة مجتمعة لا يمكن الفصل بينها . فقد تجد مفكرا أو فيلسوفا يمتلك معلومات أكثر من غيره ولكنه يفشل في الحوار أو المناظرة ، لذلك فإن السبب الرئيس في كل منطق ضعيف هو التسرع في إطلاق الآراء أولا ثم تليه بقية الأسباب .
باتت هذه القصة مثار جدل ونقاش ، على مدى عشرات السنين ، وخاصة في مجالس الشرب المتميزة بالحوار الفكري في الخمسينات والستينات بين المثقفين وكنا نسمع من هنا وهناك بأن المفكر الراحل علي الوردي كان يؤيد قرار الأستاذ شاكرعلي التكريتي.