في شرب السائل الأسود معونة على مطالعة الكتب وقيام الليل
القهوة والفقهاء.. تاريخ طويل من التحريم والإباحة
الموصل - مروان ياسين الدليمي
لم تعرف الدول العربية والاسلامية نبتة القهوة إلاّ في القرن السادس عشر بحدود 1511 م. ولقد تصادف وجود القهوة البُنيّة إلى جنوب بلاد الشام ، من الحجاز واليمن مع التغيير السياسي الذي حصل في المنطقة عقب سقوط الدولة المملوكية وبروز الدولة العثمانية،وبقيت القهوة لمدة ثلاثة قرون مثار جدل يقع ما بين التحريم والتحليل بين الفقهاء والسلاطين ،حتى إنتهى الجدل بحدود العام 1791. هذا ما جاء في كتاب"من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي" للكاتب محمد الأرناؤوط ، الصادر عن جداول للنشر والتوزيع الطبعة الاولى 2012.
ويذكر الأرناؤوط أنه لم تكن مسألة القهوة مرتبطة بانتقال نبتة من مكان إلى آخر، بقدر ما كانت شاهدا على تحولا ت في الحياة الاجتماعية ،فظهور القهوة أوجد حانات خاصة بها لتناولها،حيث أخذ يلتقي فيها الفقهاء والوجهاء والتجار والميسورين، وهذا يعني فرصة للحديث والحوار بامور شخصية وعامة، لذا أصبحت المقاهي في ما بعد بؤرة لتجمعات كانت تتشكل فيها المواقف والقناعات ازاء شؤون الحكم والمجتمع، وكان ذلك واحدا من الأسباب التي كانت تدفع بعض السلاطين إلى تحريم شرب القهوة وغلق المقاهي،كما فعل السلطان العثماني مراد الرابع 1612 - 1640 وبعكسه كان موقف السلطان محمد الرابع 1648 - 1687 حيث وقف مع الفقهاء الذين أجازوا شرب القهوة وسمح بافتتاح المقاهي.
أما عن إكتشاف نبتة القهوة فيشير الكتاب إلى أن بكر الشاذلي المعروف بالعيدروسي 1447 – 1509 م يعود إليه الفضل في إكتشافها، والرواية المتداولة تقول بأنه مر بسياحته بشجر البن على عادة الصالحين فاقتات من ثمره حين رآه متروكا مع كثرته ،فوجد فيه تخفيفا للدماغ واجتلابا بللسهر وتنشيطا للعبادة فاتخذه قوتا وطعاما وشرابا وأرشد أتباعه إلى ذلك ،ثم انتشرت القهوة في اليمن ثم إلى بلاد الحجاز ثم إلى الشام ومصر .
يشير الكاتب إلى أنه في العام 1554م أُفَتح أول مقهى في إستانبول من قبل رجلان من بلاد الشام، الأول من حلب والآخر من دمشق، وكانت المقاهي محالّ جديدة،لم يسبق لها مثيل في الغرب،الذي عرف المقاهي في منتصف القرن السابع عشر،وأول مقهى فتح في لندن كان في الخمسينيات من القرن السابع عشر.
إن موضوعة تأريخ ظهور القهوة في بلاد العرب والمسلمين،تقدم لنا دليلا واضحا على أن من الممكن لرجال الدين الانشغال لفترات طويلة باشياء لاتستجوب الكثير من الوقت من التفكير والاجتهاد والخلافات في ما بينهم ، بينما تراهم من جانب آخر يعزفون عن التفكير والبت في ما هو جوهري وبغاية الأهمية ويمس حياة المؤمنين من أتباعهم.
عشرات القصائد
من جانب آخر نتج عن هذا الخلاف بين الفقهاء،نتاج أدبي / شعري،حيث كتبت العشرات من القصائد التي يعرض فيها الفقهاء والشعراء دفوعاتهم عن جواز شربها أو مبررات تحريمها. ويمكن من خلال قراءة تلك الاشعار المطولة الاطلاع على جوانب من البيئة الثقافية والاجتماعية وما كان سائدا من افكار وقناعات تعبر بالنتيجة عن روح العصر انذاك . مثال من تلك الاشعار للإمام أبو الفتح المذكور :
وليس في القهوة من أضرار
كلاَّ ولانوعٌ من إلإسكار
بل نفعها وفضلها عظيم
وإنما يعرفه الحكيم
ولم يقتصر الأمر عند حدود الشعر، بل كانت هناك رسائل كتبها فقهاء معروفون في العالم الأسلامي مثل محمد بن مصطفى الاقحصاري 1544- 1616 م ،استعرضوا فيها ما لديهم من علم ومعرفة لتبيان موقفهم من شرب القهوة والدخان والأشربة المحرمة ، وورد في رسالة الأقحصاري قوله :"ولقد رأيت كثيرا من العلماء العاملين أنهم يحكمون بحلّها ويشربونها ،ووجدت في نفسي في شربها معونة على مطالعة الكتب وقيام الليل لكونها رافعة الكسل والنوم".
ويشير الأرناؤوطي في مقدمة كتابه إلى أن القهوة تتميز عن بقية المشروبات بتاريخ ثقافي في العالم العربي / الاسلامي،لايمكن أن نجد له مثيلا في الشاي أو المتة أو في غيرها من المشروبات التي جاءت من موطنها الأصلي إلى هذه المنطقة ،وربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان يشرب فيها وراء هذا الاختلاف الواسع في الموقف من القهوة والذي قسَّم الفقهاء / الأدباء خلال عدة قرون ، بما أدى إلى تراكم نتاج ثقافي / ادبي لايزال يستحق الدراسة، كما أدى إلى حراك إجتماعي نتيجة ظهوربيوت المقاهي وما صاحب ذلك من استقطابها لمظاهرجديدة (الغناء والموسيقى والمسرح الشعبي الحكواتي والكراكوز).
وفي مقال للكاتبة السورية هلا قصقص حول نفس الموضوع حمل عنوان"اول مقهى في العالم افتتحت في دمشق " إعتمدت فيه على مصادر مختلفة منها كتاب الأرناؤوط ،جاء فيه :" عندما خطر لبعض الدمشقيين في النصف الأول من القرن السادس عشر الاستفادة تجارياً من الطلب المتزايد على إحتساء القهوة لدى ظهورها كمشروب اجتماعي، وقاموا ببيع القهوة للجمهور في مكان عام استقطب العامة خارج خصوصية المنزل، لم يخطر لهم آنذاك بأنهم مقدمون على خلق مؤسسة اجتماعية جديدة ستحدث تغييراً جوهرياً في البنية الاجتماعية والعمرانية للمدينة التقليدية، وستؤسس فيما بعد لفعالية اجتماعية محورية في الفضاء العمراني الجديد للمدينة الحديثة، بالإضافة لتحفيز مجموعة من الممارسات الاجتماعية الدنيوية الجديدة المرافقة لها." وأضافت قصقص في مقالها :"هؤلاء الدمشقيون كانوا مدفوعين برغبة مادية وخبرة تجارية من حالة اجتماعية معاشة، وليس بمشروع فكري للتغيير، ولكن مبادرتهم ما لبثت أن حازت على شعبية واسعة، وأخذت أبعاداً فكرية وثقافية ودينية.واليوم بعد أن أصبح المقهى عنصراً أساسياً من النسيج العمراني المألوف للمدينة الحديثة، لا يخطر على بال أحد عند الجلوس في المقاهي لاحتساء القهوة، كما يذكرنا ابن خلدون، أن لهذه الحالة الاجتماعية الطبيعية والمألوفة تاريخاً طويلاً وحافلاً، وصراعاً دينياً-اجتماعياً عريضاً وعنيفاً، كما لا يخطر لهم مرارة المعاناة الاجتماعية التي صاحبت تطور هذه الظاهرة الجديدة في المدن العربية والعثمانية على مدى ثلاثة قرون من الزمان، قبل أن يتقبلها المجتمع كممارسة اجتماعية مألوفة ومطلوبة، ويخصص لها عنصراً عمرانياً أساسياً في المدينة" .