المنظومة السياسية في العراق.. مكامن الخلل وسبل الإصلاح
حسين الزيادي
الفوضى اليوم هي سيدة الموقف في الأحداث الأخيرة التي شهدتها الساحة العراقية، في ظل صراع هو الأشد في العراق، ولم تكن هذه الصراعات ممكنة لولا استفحال الأمراض داخل الجسد السياسي العراقي الذي عانى الهشاشة منذ بدايات وجوده، في ظل وجود طبقة سياسية عاجزة ينخرها الفساد وتحركها المصالح الشخصية والحزبية، ومقابل كل هذا تسيطر حالة من الاغتراب السياسي يغذيه احباط شعبي عارم تعاني منه شرائح عريضة من المجتمع، ويلحظ الترقب الحذر في عيون جميع العراقيين ودول المنطقة عموماً، في الوقت الذي تباينت المواقف كثيراً من الاحداث الأخيرة وعمليات العنف التي شهدتها العاصمة، فالبعض يرى أن السيد الصدر قلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، واعتبر البعض الاخر انها فرصة للتخلص من الطبقة السياسية المتهالكة، على حد وصفه، وذهب آخرون الى اعتزال الاحداث وكأنها لا تعنيه واعتبر أن ما يحدث عبث وليس ثورة لتغيير او اصلاح النظام السياسي، وفق تعبيره، ولكل رأي واتجاه مبرراته وادلته وقناعاته الراسخة، فالنموذج الكارثي والفوضوي البشع الذي انتجته العملية السياسية في العراق منذ عام 2003 كان كافياً لتشكيل تلك القناعات، كما ان هذا النموذج الذي يتحمل مسؤولية احداث اليوم وتداعيات الوضع، لا يسمح بأي حال من الاحوال إنتاج معادلة تؤمن الاستقرار والأمان للمواطنين، فضلاً عن عدم قدرته على بناء دولة مؤسساتية قائمة على المواطنة واحترام الاخر والاهتمام بالأمن الانساني الذي بات مهدداً اكثر من أي وقت مضى، ومهما كانت التفسيرات فان من المؤكد ان الاحداث الحالية ليست وليدة اللحظة بل هي نتيجة طبيعية لتراكمات الاخطاء منذ عقدين من الزمن. لقد أظهرت تجربة السنوات الماضية عِللاً عديدة في الحياة السياسة وإن تقييم الفشل السياسي يبرز الدور المدمر الذي مارسته معظم الاحزاب والحركات المؤثرة في فترة ما بعد عام 2003 فالديمقراطية لا تقوم فقط على نصوص دستورية وقانونية مجردة بل تحتاج إلى دعائم وركائز قوية لكي تكون مستدامة ومستقرّة، وأولى هذه الدعائم، المنظومة الحزبيّة الوطنية التي تؤمن بالآخر وتتعايش معه، وربما لا نضيف شيئاً حين نقول إنّ أمراض السياسة العراقية العراقية تتأتّى، في جزء كبير منها، من منظومتها الحزبية التي لم تستوعب المعنى الحقيقي للديمقراطية، الامر الذي شكل نفوراً من قبل الشعب بكل طبقاته،
انتخابات مبكرة
ولعل وصول الأمور إلى تلك الدرجة الخطرة والحرجة من الاحتقان والانسداد، ارتبط بمجمل الأحداث والوقائع التي أعقبت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العاشر من تشرين الأول الماضي، فالانتخابات التي أريد لها أن تكون مبكرة، وأن تأتي بمخرجات تكفل معالجة أخطاء المرحلة أو المراحل السابقة وسلبياتها، جرت بعد أكثر من تأجيل، لأسباب كانت في ظاهرها فنية وإجرائية، بيد أنها في واقع الأمر كانت سياسية بحتة، ولأنها أفرزت نتائج جدلية، فبدلاً من أن تمثل هذه الانتخابات فرصة لحلول ومعالجات وتفاهمات لتأسيس عقد اجتماعي بمسارات سياسية سليمة وواضحة، فإنها عمقت الأزمة، ووسعت هوّة الخلاف، وزادت حدة الاحتقان، لتكون نتائجها كارثية بعد مدة من اجرائها.ان اصلاح المنظومة السياسية تتطلب اجراء تعديلات دستورية حقيقية وشاملة لان أهم عنصرين لبقاء وفاعلية أي نظام سياسي هما: الدستور والمؤسسات، والدستور العراقي الحالي بوصفه وثيقة سياسية اشتمل على عدد كبير من المغالطات والهنات ولم يكن في مواضع عدة متسقا مع أبسط قواعد الفقه الدستوري الحديث وقد فصل هذا الدستور الأعور للعراق نظام سياسي مُعقد قائم على التقسيم الطائفي المحاصصاتي للسلطة وهو ما يتضح جليا في عدة نصوص اسهمت في وجود حالات من الانسداد والانغلاق السياسي، والسبب الآخر الذي يفسر ما وصلت إليه الحالة العراقية التي انتهت الآن إلى صراع دموي هو الديمقراطية الشكلية أو (ديمقراطية الواجهة)، او (الديمقراطية الكاذبة)، إذ يتوهم البعض اننا نعيش واقع ديقراطي بسبب وجود الأدوات الشكلية للعمل الديمقراطي كمفوضية للانتخابات وقانون انتخابي وماشاكل ذلك، إلا أنه في حقيقة الامر لم يقد ذلك إلى بناء ديمقراطية فعلية رصينة، لان الأدوات قد تم تأسيسها وبناء قوانينها وأنظمتها وتقسيماتها الإدارية وتوزيع المناصب فيها على نحو يضمن إدامة سلطة الأحزاب المهيمنة، لا من أجل بناء منظومة ديمقراطية تجسد نظاما سياسيا ديمقراطيا بما يسهم في صيرورة عملية تنموية سياسية قادرة على ترسيخ المفاهيم الديمقراطية في المجتمع شكلا ومضمونا، وقد كان ذلك نتاج إرادة جماعية أو تواطؤ جماعي للقوى السياسية الفاعلة في المشهد العراقي بعد عام 2003 بمختلف أطيافها وتنوعاتها، اتفقت على الوصول الى هذه المنتج السياسي الذي يضمن الاستحواذ على مخرجات الانتخابات بدلا من ان يعزز أو يضمن التنافسية الانتخابية النزيهة، كما اتفقت هذه القوى على ديمومة امتيازاتها واستحواذها على الاموال والمكاسب وهو قمة الفساد السياسي الذي اصبح فيما بعد بوابة رئيسة لأنواع الفساد الاخرى، فحينما تغيب العقلانية والرشد عن تأسيس القواعد المنشئة لمرحلة الانتقال الديمقراطي، فإن ذلك سيقود بالضرورة إلى العجز عن بناء نظام ديمقراطي مستدام، بمعنى أن تعثر المرحلة الانتقالية سوف يهدد أي تجربة ديمقراطية ناشئة ويحكم على مصيرها بالفشل.
انهيار الحضارات
لاادري لماذا استحضر مقولة ابن خلدون عن دور الفساد في انهيار الدول: ان انتشار الفساد يدفع بعامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وهو بداية شرخ يؤدي إلى انهيار الحضارات والأمم"، لقد كان ابن خلدون محقًا في هذا الرأي الحصيف الذي يعطي صورة مُختصرة عن الواقع المؤسف الذي وصل اليه العراق اليوم نتيجة تراكمات الفساد والرشوة والتنصل عن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي ضاعفت الفقر والبطالة والحرمان الاجتماعي، والتي قادت البلد إلى شرخ سياسي وحضاري عميق يتطلب عملية إصلاحية جذرية، ومن جهة اخرى اسهم الفساد الاداري في نشوء دول عميقة داخل جسد الدولة تتمترس حولها الاحزاب والتيارات والحركات التي انشأتها في عملية فساد فريدة من نوعها.
تقييم العملية
ان مراجعة التجربة وتقييم نجاحاتها واخفاقاتها وتقويم مقومات النجاح ومعالجة مواطن الإخفاق والفشل، امر ضروري لمعالجة احداث اليوم ومايمكن ان يحدث غداً، فالعملية السياسية عملية تكاملية تتطور تدريجياً وتعتمد سرعتها على نمط إدارة القائمين عليها وتوفر الأدوات المطلوبة وطبيعة النظام المستهدف في هذه العملية، بعد مرور عقدين من عمر النظام الجديد اصبح لزوماً على الجميع مراجعة هذه التجربة وتقييمها وتقويمها و كل في المساحة المرتبطة به. ومهما تباينت الآراء والاتجاهات في تفسير الاحداث المتلاحقة فيجب على الجميع الحفاظ على الدم العراقي، وليعلم الجميع ان قناعات الانسان تختلف زماناً ومكاناً وان الصراع الحالي وان تشعبت اسبابه ونتائجه وعوامله فان للمصالح والمكاسب حصة الاسد.