التفكير الإبداعي ..كتاب يعنى بتعليم التفكير
محمد الربيعي
يعد هذا الكتاب من أكثر الكتب رواجاً في العالم حيث يوضح فيه مؤلِّفه (إدوار دي بونو) كيف نحفز التفكير الإبداعي بواسطة بعض الأساليب التي أثبتت نجاعها في حقلي التعليم والتسلية. ومؤلف الكتاب مولود في مالطة، درس الطب فيها، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة (كامبردج)، وقام بالتدريس في جامعات بريطانية عدة كما قام بتنفيذ الكثير من الدورات التدريبة في تعليم التفكير لحساب عدد من المؤسسات الرائدة مثل (آي بي إم) و(شل)، ويقوم بتقديم برنامج واسع لتدريس مادة التفكير في المدارس. يقع هذا الكتاب الذي ترجمه خليل جيوسي، وأصدره المجمع الثقافي في أبو ظبي في( 377) صفحة من القطع الصغير، ويشتمل على مقدمة المترجم وتمهيدٍ واثنين وعشرين فصلاً تعرض أساليب التفكير الإبداعي، وينقسم كلُّ فصل إلى قسمين: نظري يوضح طبيعة الأسلوب، وعملي يتيح الفرصة أمام القارئ لمارسة الأسلوب الذي تم شرحه. يلاحظ المؤلف أن المدارس قد ركزت، ولزمن طويل، على التفكير التقليدي باعتباره المصدر الوحيد لمعالجة المعلومات، وهو على الرغم من فاعليته النسبية يعد قاصراً، وللتغلب على هذا القصور يمكن اعتماد أساليب التفكير الإبداعي البناء وممارستها أيضا، فهي مهارات يسهل اكتسابها كمهارة الرياضة البدنية أو قيادة السيارة أو أي مهارة عقلية أو عملية. ويعنى التفكير الإبداعي بتوليد الأفكار الجديدة، وقد شاع انطباع خاطئ مفاده أن الأفكار الجديدة مرتبطة بالاختراعات، لكن الصحيح، كما يرى المؤلف، أن الأفكار الجديدة مادة للتطوير والتغيير في المجالات كافة بدءاً من العلوم وانتهاءً بفن السعادة الشخصية، علاوة على ذلك يهتم التفكير الإبداعي بكسر الجمود الذي يحيط بالأفكار القديمة؛ الأمرُ الذي يقود إلى تغيير الاتجاهات والميول والطرائق، ويؤدي إلى النظر للأشياء بمنظار مختلف، فهناك عنصران أساسيان في التفكير الإبداعي هما: التحرر من الأفكار القديمة، وتحفيز الأفكار الجديدة واستثارتها.
تفكير تقليدي
يميز الكتاب بين نوعين من التفكير، الأول: التفكير التقليدي ويسميه التفكير العمودي وهو تفكير يهتم بالترتيب المنطقي للأشياء، والثاني: التفكير الإبداعي وهو تفكير يعنى بتوليد الأفكار الوثابة غير المتوقعة. ويرى (بونو) أن التفكير الإبداعي ليس بديلا للتفكير العمودي، بل هو متمم له، فبينما يقبل التفكير العمودي النمط الإدراكي ويتعمق فيه، يعيد التفكير الإبداعي صياغةَ مفهوم الإدراك، وعلى سبيل المثال إذا كانت جميع خطوات حل مشكلة ما ينبغي أن تكون صحيحة في التفكير العمودي، فقد تستدعي الحاجة لأن تكون على خطأ كي نتمكن من إعادة صياغة نمط معين بطريقة جديدة في الفكير الإبداعي. يقوم العقل عادة بصنع الأنماط فيشكلها حسب البيئة، ثم يصنفها ويستخدمها، وبكلمة أخرى: تكمن فعالية العقل في معالجة المعلومات، وبما أن طريقة تسلسل المعلومات تحدد أنماطها فإن الأنماط عادة ما تكون دون المستوى الأمثل، ومن أجل تحديث نظام معالجة المعلومات يقوم التفكير الإبداعي بإعادة بناء المعلومات أو إعادة صياغتها بالاستبصار، وببساطة فإنَّ التفكير الإبداعي (ديناميكي) توالدي في حين أن التفكير العمودي (استاتيكي) نمطي، وإنْ كان كلٌّ منهما يهدف إلى التأثير والفاعلية. نخلص من هذا إلى أنَّ التفكير العمودي لا يتطلع إلى وراء ما هو كاف ومناسب بينما يتطلع التفكير الإبداعي إلى ما هو أفضل، وعند الوصول إلى نقطة الكفاية كما هو الحال بالنسبة إلى التفكير العمودي يغدو من الصعب الاستمرار في استخدام التفكير العمودي، وتبرز الحاجة إلى استخدام التفكير الإبداعي لمتابعة البحث عن الأفضل عن طريق إعادة التركيب بالاستبصار. ولما كان الاستبصار عملية لاتدرك إلا بعد حدوثها فإن التفكير الإبداعي يلجأ إلى خلق الصعوبات وإحداث الفجوات لإبراز الاستبصار إلى حيز الوجود.
ليس من السهل اكتساب مهارات التفكير الإبداعي بمجرد القراءة عنه، بل لا بد من التدرب عليه ومواصلة التدريب كما هو الحال في اكتساب أي مهارة، وقد ركز الكتاب على التمارين، وحدَّد الوسائل والطرائق لتنفيذها حيث يمكن استخدامها بذاتها كما يمكن تطويرها، ومن الأساليب المهمة في تنمية التفكير الإبداعي:
1 – إلغاء الإشارات والأسماء، وفي هذا الأسلوب يقترح المعلم أو المدرب على طلابه موضوعات للمناقشة وقد حُذف من كل موضوع مفهوم يعد من لوازمه؛ حفزاً لذهن الطالب على توليد أفكار لا نمطية أوغير مطروقة، وكمثال على ذلك يناقش الطلاب موضوعاً عن الحرب دون استخدام إشارة (قتال)، والإشارة هنا تعني المفهوم، أو يناقشون موضوعاً عن المدرسة دون استخدام إشارة (مدرسة)، أو موضوعاً عن الشرطة دون استخدام إشارة (قانون) وهكذا ....
2 - إعادة صياغة عناوين الصحف، حيث يكلف المدرب طلابه بإعادة صياغة عناوين صحافية شريطة المحافظة على المعنى.
3 – حذف بعض الكلمات من عبارة ووضع كلمات بديلة مع المحافظة على الفكرة الرئيسة، والمهم في هذا الأسلوب ليس الإتيان بكلمات مرادفة للكلمات المحذوفة، وإنما الحفز على إعادة البناء وصياغة العبارة من جديد.
ومن أهم طرائق التفكير الإبداعي جلسات العصف الذهني، وهي طريقة تؤدي إلى استثارة تبادلية شاملة حيث بالإمكان التعرف إلى أفكار الآخرين والإفادة منها في تشكيل عناصر جديدة للفكرة أو الموضوع. وتسبق جلسة العصف الذهني فترة تسخين لمدة عشر دقائق ثُم تبدأ الجلسة وتستمر لمدة ثلاثين دقيقة، ويُمنع في جلسة العصف الذهني تقويم الأفكار المطروحة أو محاكمتها مهما بدت غريبة أو شاذة، وفي نهاية الجلسة يقوم رئيسها بإعداد ثلاث قوائم للأفكار التي تمخضَّت عن العصف الذهني: 1- أفكار ذات فائدة مباشرة 2- أفكار للدراسة والاسكتشاف 3- أفكار تصلح كمداخل جديدة للمشكلة. إنَّ المهمَّ في جلسات العصف الذهني هو توليد الأفكار لا تقويمها.
ومن أجل استخدام التفكير الإبداعي بفعالية يحتاج المرء إلى أداة لغوية خاصة تتيح الفرصة لاستخدام المعلومات بطريقة خاصة يتطلبها التفكير الإبداعي، هذه الأداة اللغوية يصطلح المؤلف على تسميتها (بو) وتعتبر أداةً للاستبصار وتسهيل استخدام اللغة، فهي تقوم بتخفيف قسوة الأنماط المتصلبة التي يشكلها العقل، وتستثير أنماطا جديدة. إن (بو) ليست وسيلة لإصدار الأحكام أو تقويمها أو الحكم عليها بالصحة أو الخطأ، وإنما هي وسيلة لتنظيم المعلومات أو إعادة تنظيمها، فهي أفضل طريقة لربط المعلومات بعضها ببعض والبحث عن علاقات جديدة فيما بينها. إن وظيفة (بو) نقل العبارة من معناها إلى تأثيرها ونتائجها، فالعبارة الآتية: "ينبغي على جهاز الشرطة أن يستخدم شرطياً بيد واحدة" مثلاً، تبدو من حيث المعنى مثيرة للضحك والاستغراب لكنها من وجهة نظر (بو) مهمة من حيث تأثيرها ونتائجها؛ لأنها تقتضي أن يركز جهاز الشرطة على العقل بدلاً من التركيز على استخدام القوة العضلية. إن (بو) لا تقول لك: " أنا ضدك"، بل تقول: "دعنا نحاول صياغة الأمر بطريقة أخرى مشتركة". إن أفضل ما يقال في (بو): إنها تشبه الشعر من حيث إن الكلمات في الشعر لا تقصد لمعانيها وإنما لتأثيرها في النفس، وليست اللغة هي التي تجعل (بو) ذات أهمية، وإنما ميكانيكية العقل ومرونته هما ما يضفي عليها تلك الأهمية.
أخيراً: إن كتاب (التفكير الإبداعي ) من الكتب الهامة التي تعنى بتعليم التفكير، فالتفكير مهارة ينبغي أن يدرب عليها الكبار والصغار، في البيت، في المدرسة، في المجتمع. وحين نفتقر إلى هذه المهارة يصبح التقدم في أي مجال من مجالات الحياة أمراً مشكوكاً فيه.