الطموح المشروع والشهادة الرصينة
علي الشكري
يقيناً أن الإقبال على نيل الشهادة العليا الرصينة دليل تعافي البلد ، بلحاظ أن لا نهضة لوطن دون قاعدة علمية وطنية قادرة على البحث والابتكار ومسايرة المتغير والمستجد ، قد تشيد المدنيات وتقام الحاضرات وتنهض المنشآت بيد الأجنبي الوافد ، لكن هذه النهضة تبقى قاصرة منقوصة غير رصينة ، دون نهضة علمية حقيقية ومنشأة علمية وطنية ، وعالم حامل الجنسية ، يرى في وطنه الحاضنة ، يدين له بالولاء ، ويعمل بقصد نهضته وعمرانه وبنائه ، تحركه خريزة حب الوطن من الإيمان . ودون شك أن الإقبال على نيل أعلى المؤهلات العلمية ، والتطلع لارتقاء سلم البحث من اوسع ابوابه ، حق مشروع على الدولة كفالته ، فالأمم لا تنهض بمالها وثروتها ، ولكن تنهض بعلمائها ومتعلميها وقواعدها الوطنية ، ولكن لكل حق محددات وضوابط ، بدونها يتحول الحق الى عبث وعبء بل وفوضى ، وبالقطع أن الحق في الإقبال على الدراسات العليا ونيل الشهادة الأعلى هو الآخر محكوم بأنظمة وتعليمات وضوابط ، تأتي في مقدمتها رصانة الجامعة المانحة ، والحاجة الفعلية ، والطاقة الاستيعابية ، وسوق العمل ، بغيرها تتحول الشهادة الى عبء ينأى بحمله حامل الشهادة والبلد ، وتعم الفوضى ، ويُنال من كرامة الشهادة . وفوضى الشهادات العليا عادة ما تطرق أبواب البلدان الهشة سياسية وعلمياً وأمنياً واقتصادياً ، أو تلك حديثة الولادة ، قليلة الخبرة ، التي تعاني من نقص حاد في عدد المتعلمين أو حاملي الشهادة العليا ، ففي العديد من البلدان دكاكين لمنح الشهادات العليا الرثة ، تختص بتصدير الشهادات الممنوحة كذبا أو المدفوعة الأجر أو التي يجري كتابتها في المكاتب والبيوت ، الى البلدان الهشة أو الأضعف خاصرة ، وعلى تلك الأوطان قبول الشهادة ، وتوفير فرصة العمل ، وتحمل الفروقات المالي ، وإلا اتهمت بعدم احترامها العلم ، وصدها عن الشهادة ، وتنكرها للعلماء ، ويذهب الرأي العام الشعبي متعاطفاً والفضائيات منددة والأقلام تهاجم وتتوعد وتتهم ، ودكاكين الشهادات مشرعة فرحة آخذة بالتوسع ، لا إشكال عندها في العدد ولا في الخلفية العلمية ولا بآلية الدراسة حضورياً غيابياً بالمراسلة ولا بأس بالأحلام إن لم تتوفر اليقظة . لقد كان العراق في طليعة البلدان العربية التي اهتدت لبناء المؤسسة العلمية والجامعية الرصينة ، فإلى جامعاته شخصت الإبصار ، حتى غدت الدراسة فيها آمل ورغبة وتطلع ، كيف لا وهي الأقدم والأعرق والأرصن ، لا يعتلي منصتها الا من استقام علمه ورصن اساسه ووثقت بحوثه ، وقُيمت دراساته ، من هنا ذاع صيتها وانتشرت أخبارها ، وراحت طموح وهدف وغاية ، نعم لقد ميّز النظام السابق بين ابناء شعبه في حق الحصول على الشهادة العليا ، فهذا متاح الأمر له مشرع ، وذاك محّرم عليه محظور ، لكنه لم يكن ليرسل البعثات أو يقبل الزمالات الا في ارصن الجامعات وأشهر الحاضنات العلمية ، فشُيد بنيانه العلمي على أساس رصين،
الفاشل الهزيل
أما من أراد أن يضع الدولة أمام الأمر الواقع ، واقتنى الابخس شهادة والأرخص علماً والأضعف مؤهلاً ، فقد راح مثل للفاشل الهزيل المتواضع علماً ، وظلت شهادته حبيسة ادراج المنزل ، وقد تراكم عليها الغبار فاختفى الحبر الذي كُتبت به ودون أن ترى المعادلة . لقد شهد العراق بعد سنة 2003انفتاح علمي كبير ، فراحت الأفكار تتدفق والأقلام تسيل علماً ، والقريحة العلمية تبدع وتبتكر وتنتج ، حتى أبهرت العالم بما أنتجت وأبدعت وعوضت ما فات ، في وقت اعتقد فيه العالم أن العراق لن يتعافى من نكبته العلمية التي خلفتها الحروب والحصار العلمي والاقتصادي ، الا بعد عقود قد تطول ، واذا بآلته العلمية تُبدع ، وجامعاته تُخّرج ، وشهاداته تنافس ، وابتكارات علمائه تكتسح ، فقرر الباغض التوغل لشهادته العلمية ، فاستحدث دكاكين علمية فتحت ابوابها مشرعة أمام كل راغب في الحصول على المؤهل العلمي الرخيص بمال بخس ، ففاض العراق بمؤهلات دكانية في كثير من الأحيان مكتوبة متطلباتها في بيوت ومكاتب ، فراح الغث ينافس السمين بل ويتقدم عليه ، ولا أحد قادر على وقف هذا الاستهداف العلمي ، وإلا اتهم هو باستهداف العلم ومناصبة الباحثين عنه العداء ، إن لم يتهم بالجهل والفساد والوقوف بوجه الطموح والرغبة في التقدم . على مصدر القرار أن يكون اكثر شجاعة ويتصدى لدكاكين العلم وشهاداتها التي راحت تشكل خطراً اكبر من خطر الإرهاب ، فهذه الدكاكين أصبحت تمنح شهادة الطب والهندسة والصيدلة .....، فضلاً عن منحها الشهادات العليا في حقل الاختصاص ، فأضحى مصير العراق وشعبه مهدد بالخطر ، وراحت اروح الناس على المحك ، وهو ما يفسر البحث عن التطبيب في الخارج لأيسر الأمراض وابسطها ، وراح حامل المؤهل العلمي العراقي مشكوك بقدراته في المحافل العلمية الدولية ، بعد أن كان يصول ويجول فيها ، ويحصد الإنجازات والجوائز . لقد سيطرت الشعبوية ومسايرة الرأي العام الشعبي على مصدر القرار ، فراحت وسائل التواصل الاجتماعي تحكم قراراته ، وما يعيد المتظاهر الى بيته ومكان عمله ، بحق وباطل ، فتراجع المد بالعلم وخرج العراق من التصنيف العالمي ، وراح يجالس من هو في موخرة القائمة بعد أن كان ينافس على المراكز المتقدمة فيها ، ويقيناً أن ضرر كبير اصاب القاعدة العلمية العراقية ، لكن الإشكال كله ليس في ما لحق بالعراق من ضرر علمي ، لكن الإشكال كله أن يبقى مصدر القرار صامت متفرج على الاستهداف العلمي والإيغال به ، فالمنصب زائل والذكر خالد ، ولكل موقفه وتاريخه وتصديه ، فالزبد يذهب جفاء وما ينفع العراق يمكث في الذاكرة .