الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رقمنة التعليم.. ثورة رابعة

بواسطة azzaman

رقمنة التعليم.. ثورة رابعة 

الهوة وكسر التقليد

 حسن احمد

بعد تحولات ومخاضات طويلة تجاوزت العقدين من الزمن ، دخل التعليم ثورتة الرابعة بعد مضي ثلاث ثورات متعاقبة كانت ولازالت تسير بخط متوازي مع تطور العجلة الصناعية للتكنولوجيا بكل مراحلها واشكالها ووسائلها. كلاهما ،وأعني التكنولوجيا والتعليم ، يحاول اللحاق بركب الاخر  و يلتقيان في مراحل زمنية متلاحقة لرفد احدهما الاخر، لكن دائماً ما نجد ثورة التكنولوجيا في تجدد مستمر من حيث الخصائص والمزايا الخلاقة والتطبيقات المعقدة  التي تكسر المألوف. اما خطوات التعليم فهي بطيئة وغير استباقية ، لاتكسر ولاتصلح بشكل جوهري التقليد التعليمي المتوارث من حيث الشكل والمحتوى ، مالم يحدث طارىء او تطور لا يترك خيارا  سوى التغيير الحتمي الذي تفرضه تقلبات المحيط البيئي للعملية التعليمية.

 يقال “رب ضارة نافعة” ؛ احدثت جائحة الكورونا Covid 19  متغيرات على مختلف المستويات  الاستراتيجية في التعليم ، مما استدعى  الباحثين و التربويين وصناع القرار بإعادة التفكير بالنهج التقليدي المتبع ،ومن دون أدنى شك ان  ظروف الحجر البيتي وتوقف ما يقارب عن 1.2 مليار طفل عن الالتحاق بالمؤسسات التعليمية في 186 دولة حول العالم حسب احصائيات المنتدى الاقتصادي العالمي  لأجل غير معلوم  مهدت للتفكير  جديا  بالتحول الرقمي ، وبالنتيجة  تغيرت أولويات كبرى المؤسسات واتجهت بوصلة التخطيط الاستراتيجي نحو التكنولوجيا الرقمية على انها المنقذ في المأزق الحالي. لا يمكن اخفاء الوضع الأكاديمي والفني الحرج الذي تمر به هذه المؤسسات  نتيجة الوضع المفاجئ خصوصا ان معظمها كان ولا يزال يفتقر لأسس التخطيط الصحيح والبناء التكنلوجي المناسب للاستجابة لأزمات كهذه حتى وصلت لمفترق طرق :اما الاستمرار بالنهج التقليديّ بكل إخفاقاته أو اعادة النظر بالإستراتيجيات  المتبعة لكسر المألوف والاعداد لقيام ثورة تجعل التكنولوجيا الرقمية أساس التصحيح الجوهري لمخرجات التعليم بشكل يكسر التقليد الحالي المتبع.

ثورات التعليم

 الحديث عن تاريخ التعليم هو حديث عن تاريخ الإنسانية. مر التعليم  عبر التأريخ  بمخاضات عسيرة منذ بدء الخليقة ،وشهد تقلّبات مرتبطة ارتباطا متشعبا بتطور البشر والمعرفة والتكنلوجيا و المحيط البيئي الذي تتقاطع بساحته كل هذه المتغيرات المتشابكة، وهذه المخاضات عبارة  عن منعطفات تاريخية تكشف نوع ودور التغيرات الإصلاحية .

شهد التعليم ثلاث ثورات اصلاحية تمردت على التقليد السائد في حقبات متتالية ومترابطة ،ان  الخط البياني لهذه الثورات  ابتداء  من التعلم الحر في مجتمعات الصيد والالتقاط منذ آلاف السنين حيث كانت حرية التعلم هي الثقافة السائدة وأفراد  هذه التجمعات تكسب معارفها وأفكارها ومهاراتها اعتمادا على بيئتها المحيطة بشكل مباشر  من اجل العيش والترحال مستخدمة في ذلك وسائل بدائية من الطين والخشب وجلود الحيوانات و اوراق الشجر. مرورا بالثورة الثانية التي مهدت لظهور تعليم مؤسساتي منظم داخل المدارِس والجامعات في اربع مناطق شهدت التمدن الحضاري وهي :حضارة وادي الرافدين في العراق  و حضارة حوض النيل  في مصر  وحضارة النهر الأصفر في الصين و حضارة وادي السند في الهند.لكن كان  التعليم مقتصرا في بداياته على فئة معينة من الناس  ومحصورا في أماكن محددة بسبب محدودية أدواته آنذاك. إنتهاء بالثورة الثالثة التي تزامنت مع ظهور وسائل الطباعة  في اوربا التي غيرت التعليم شكلا ومضمونًا وأصبح متاحا للجميع . واستمرت هذه الثورة باستمرار  التطور التكنلوجي الحديث واختراع النسخ الصوري في الستينات و الآلة الناسخة في السبعينات والحاسوب الإلكتروني  وشبكة الانترنت في تسعينات القرن العشرين. اما وفي وقتنا الحاضر دخل التعليم ثورتة الرابعة التي تأطرت بأطار ها  الرقمي المتطور بفضل الذكاء الاصطناعي وتطبيقات العالم الأفتراضي والواقع المعزز.

ظاهرة الثورة الرقمية

بزوغ نجم الثورة الصناعيّة الرابعة التي أعلن عنها في المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2016 فتح الأبواب لفرص تفاعلية جديدة، وبذلك كثرت الدعوات في جميع مجالات الحياة ولاسيما التعليم على مختلف مستوياته التي تنادي بالتغيير. انطلقت رحلة التكنولوجيا التعليمية عبر موجات تطويرية متتابعة منذ منتصف القرن العشرين إبتداء بالربط السلكي للحواسيب الى ان وصلت الى أوجها في وقتنا الحاضر باستخدام التعليم الافتراضي Virtual Learning  و الواقع المعزز Augmented Realityوكذالك الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence  وظاهرة الصور المجسمة ثلاثية الأبعاد Hologram  التي نسفت حدود الزمان والمكان.لم تقتصر الثورة الرقمية على الأبعاد العلمية بل اقتحمت مجال العلوم الانسانية وأفرزت مشاريع ذائعة الصيت في كبرى الجامعات العالمية تعرف بمشاريع الأنسانيات الرقمية Digital Humanities التي وظفت الطرائق الحاسوبية في بحث وتحليل وإيجاد المعلومات الاستثائية ، على سبيل المثال: تقديم تحليلات  جغرافية أو الإجابة على تسأول تأريخي أو مقارنة بعض الثيمات الأدبية عبر عصور واجيال مختلفة أو رقمنة مقتنيات المكتبات أو تكوين قاعدة بيانات ارتباطية أو تحويل المعلومات من معلومات مكتوبة لمرئية.

يمثل القرن الواحد والعشرين الفترة الذهبية للثورة التكنولوجية الرقمية، نشهد يوميا مجموعة زاخرة من الحلول والخصائص Affordances الجديدة  التي كانت غير ممكنه في الماضي القريب، بحيث صار من الممكن التعلم بشكل مرن بغض النظر عن حدود الزمان والمكان. والكثير من المنصات الإلكترونية يمكنها إيجاد تجارب تفاعلية تسهل عملية تشكيل وعرض المخرجات الدراسية بشكل متنوع سمعية، بصرية وكذالك تواصلية تتوافق مع مختلف الانواع والأساليب التقليدية لا بل تتفوق عليها بعملية اكتساب المعلومة وسرعة استردادها، ناهيك عن حجم المعلومات التي يمكن الولوج اليها والتعامل معها وتحليلها باستعمال تقنيات  التنقيب عن / في البيانات Data Mining والمعلومات المحدثة بشكل مستمر.

 نظريات التعليم الرقمي أثبتت إمكانية اتاحة تجارب فريده من نوعها و اختيار وتشكيل المخرجات الدراسية وطرحها بما يتوافق مع مختلف الأهداف والأغراض ، وتمثل هذه الفرص خيارات ناجعة في طريقة هضم واستيعاب المادة الدراسية بطريقة مُختلفة. التفاعل الفردي والجماعي متاح وخصائص التعليق المتبادل وطرح المقترحات وخاصية الكتابة والمشاركة الصوتية كلها ممكنة بواسطة التعلم النقال Mobile Learning  الذي أضاف فوائد ومزايا عصرية من حَيْث التعلم الفوري ومراجعة المحتوى وسهولة نشر المعلومات والوسائط.

ردم الهوة بين  الطموح  الرقمي وواقع التعليم

الهوة بين النظرية والتطبيق بدأت تتسع يوم بعد يوم رغم اننا نعيش ظاهرة الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. هنالك جملة من العوامل التقنية و البدكوجية التعليمية و المعرفية والادارية وكذالك حقائق متعلقة بالمحيط البيئي التي تحدد مسار النجاح او الفشل بدمج التكنلوجيا بالتعليم .

ردم الهوة بين واقع التعليم التقليدي والطموح الرقمي المتصاعد يحتاج الى قرار ستراتيجي يؤسس للتحول الرقمي الجزئي أو  الكلي لمواكبة متطلبات الأجيال الرقمية. منذ وقت ليس بالقصير لم تحمل هذه الطفرة التقنية على محمل الجد على الرغم من كثرة التوصيات البحثية التي تنادي بإعادة النظر والتفكير بما يلائم متطلبات العصر.

بدون أدنى شك الكثير من المؤسسات ستتخلف عن هذا الركب بسبب ضعف واقعها التكنولوجي وضحالة معرفتها بالأطر والنظريات المعنية بتكنولوجيا التعليم ،بالاضافة الى عشوائية التخطيط الاستراتيجي لقادم الأزمات.لايمكننا تجاهل مزايا كهذه وفوائد وصار لزاما علينا أخذ زمام المبادرة والتفكير خارج الصندوق التقليدي الذي عفى عنه الدهر. الانضمة التقليدية تخلفت عن دعم حاجات ومتطلبات الأجيال الرقمية التي تنتظر الكثير من التغيير. ألقت الرقمنة بظلالها  على كثير من مفاصل الحياة وصار الكثير ينظرون للتعليم بمنظار هذه الثورة . التحول الرقمي امر حتمي لا مفر منه ،لكن قد يسال سائل هل نحن مستعدون لكسر التقليد ؟

الأدوات والوسائل الرقمية باتت متوفرة والمساحات الافتراضية أصبحت معبده والظرف الحالي صار بأمس الحاجة لخطة بديلة ، لم يتبق سوى ترجمة الأفكار والاصلاحات الحقيقة التي لا تزال مركونة على الرفوف الى واقع. قد يفتح الأفق الرقمي لخطط بديلةو لحلول انية ومستقبلية لتفادي الأزمات الطارئة. بداءات المؤسسات الأكاديمية العالمية مرحلة جديدة من التّفكير والتخطيط بشكل مختلف جذريا عن ما قبل عام 2020لتتبني استراتيجيات جديدة  تفتح المزيد من الأبواب للتكنولوجيا بلعب دور ريادي يغير شكل التعليم جملة وتفصيلا. شكل التعليم في السنوات الأكاديمية  المقبلة سيكون مُختلف ويمكننا هنا تقديم توصيات أولية  لستراتيجية رقمنة التعليم التي يعول عليها في تجسير الهوة وكسر التقليد:

اولا: يحب ان تكون الاستراتيجية على شكل مشروع متكامل ذو اهداف و رؤى قصيرة وطويلة الامد ضمن إطر ومراحل زمنية محددة . يجب ان يستند  هذا المشروع على مفاهيم وافتراضات وواقعية رصينة تأخذ بالحسبان مختلف الأبعاد المحيطة بالعملية التعليمية.

ثانيا: التحديد بشكل مفصل نوع العوائق والتحديات التي تصاحب عملية التحول الرقمي والتعامل معها. بالاضافة الى توضيح ماهية الإمكانيات والمزايا التكنلوجية المراد دمجها بالتعليم .

ثانيا:ان اي استراتيجية يجب ان  تتضمن  إقامة برامج تطويرية مستمرة تعزز المخزون المعرفي لكوادر التعليم  وتطوير المهارات العملية لكيفية دمج واستخدام التكنولوجيا لأغراض التعليم.

ثالثا: ايضا العمل على رسم اطر نظرية مناسبة قائمة على نظريات التعلم الالكترونيلاستخدامها كأساسات للتجربة العملية القادمة لتحويل المناهج  لنسخة رقمية موازية ومرتبطة بالتعليم الصفي التقليدي.

 رابعا: إجراء تقييم شامل لمشروع الرقمنة من مختلف الأبعاد

خامسا: الاستفادة من تجارب الدول الاخرى من خلال الاطلاع على سياسات التحول الرقمي والاستراتيجيات المرسومة لانجاح التعلم الالكتروني ،على الرغــم من ان هذه التجارب غير قابلة للتعميم لكن يمكن التركيز على المشتركات التي تهيء الطريق للتخطيط المستقبلي.

سادسا: توسيع نهج وقاعدة البحث العلمي واجراء المزيد من الدراسات الَتِي تعتمد على تجريب وتحليل وتقييم استخدام التكنلوجيا وتوظيفها. بالاضافة لزيادة عدد التخصصات بالتكنولوجيا  التعليمية.وهنا أقول ، ان ثورة التعليم الرابعة أخذت تتسارع وتيرتها والحلول الرقمية للتعلم والتعليم لم تعد خيارا بل صارت جزءا جوهريا واجب التضمين بكل خطوات التخطيط للتحول الرقمي،  لكسر التقليد وفتح أفق جديد.

{ دكتوراه في التكنولوجيا التعليمية  وباحث في سياسات واستراتيجيات/ بناء المؤسسات التعليمية الرقمية / جامعة بولتن / بريطانيا.

 


مشاهدات 697
أضيف 2020/05/16 - 11:39 PM
آخر تحديث 2024/07/01 - 3:49 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 41 الشهر 468 الكلي 9362540
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/7/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير