في ثمانينات القرن الماضي، راجت في العراق مقولة إعادة كتابة التاريخ وتنقيته مما علق به من شوائب. وجرى تكليف عدد من أساتذة الجامعات بإنجاز هذه المهمة وإخراجها على الملأ، بعد أن تبين للسلطة أن كثيراً من محتويات هذا التاريخ لا تلائم مزاجها، ولا تمنحها ما تتوق إليه من شرعية، وإن هي إلا شهور حتى أخرجت المطابع أكثر من كتاب يحمل شعار اللجنة الخاصة بهذا المشروع.
والحقيقة التي لم تخف عن الجميع، أن سخط هذه السلطة على التاريخ، جاء بعد اندلاع الحرب مع إيران. ولما كانت الأخيرة شريكة للعراق في الكثير من الحوادث والمحن، عدا عما اشتجر بينهما من نزاعات وحروب، فقد ارتأت الحكومة العراقية أن تتخلص من هذا الإرث الثقيل، وتعزز موقفها بنتاج فكري يدعم نشاطها في الداخل والخارج، حتى لو كان هذا الموضوع يخالف ما رسخ في أذهان الناس منذ مئات السنين.
وكما هو متوقع فإن هذه المحاولة لم تحظ بالنجاح، ولم يتحمس لها أحد خارج دائرة السلطة، فلم تكن المهمة يسيرة، وفي هذا التاريخ ما هو عصي على الحسم، أو مفتقد للإجماع، وأذكر على سبيل المثال أن مؤتمراً للتقريب بين المذاهب عقد في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً في النجف، خرج بمقررات تسوية، جرى التنصل عنها في ما بعد، لكن هناك من أنكر عقد مؤتمر كهذا، وزعم أن الحادثة محض اختلاق لا غير.
ولم يكن العراق بالطبع أول البلدان التي حاولت حذف ما لا يروق لها من التاريخ، فقد فعلت ذلك أمم أخرى أيضاً، مثل اليابان التي أخذ زعماؤها يشككون في المذابح التي ارتكبها جنودها في الصين بين عامي 1937 و1938، ومثل الروس الذين يحاولون حذف ما ارتكب في الحقبة السوفيتية من مآس من المناهج الدراسية، وكتب التاريخ.
وحينما يتبنى بعض المؤرخين إعادة كتابة التاريخ، فإنهم يقصدون في الغالب أموراً أخرى، مثل تطور البحث التاريخي، أو فلسفة التاريخ، ويفضلون محاكمة النصوص في ضوء نقد منهجي أو واقعي، ويعتقدون أن في الكثير منها تناقضاً واضحاً، أو ميلاً إلى الخيال والأسطورة، ويدركون أن ما لا يحصى منها وضع بأوامر سلطانية، قصد منها الحط من شأن الفئات المعارضة، ومثل هذه الأمور لا تحتاج إلى تدخل حكومي ينحاز إلى طرف على حساب آخر، لأنها تعني معالجة الخطأ بخطأ آخر لا يقل عنه فداحة وإثماً.
ولأن التاريخ هو أثمن ما ورثته الشعوب عن أسلافها، فإن العبث فيه لا يخدم هذه الشعوب، وأن الصفحات المعتمة منه بقدر ما هي مؤلمة وحزينة، فإنها نافعة أيضاً، لأن الدروس المستخلصة منها غنية بالعبر والدروس، ولا يمكن حذف الروايات المزيفة إلا بلجان محايدة لا تنتمي لهذه الفئة أو تلك، وهو أمر صعب وعسير، وقد مارسه المستشرقون الأجانب في حقبة ما، فأثاروا إعجاب القراء المسلمين بما طبعوا عليه من موضوعية، وقد تبين في ما بعد أن العديد منهم كان ينطلق من رؤية استعمارية يخدم بها الغرب بالدرجة الأولى، ولم يتحل بالأمانة المطلوبة.
لقد أصبح واضحاً أن الجهود التي تبذل من أجل غربلة الروايات التاريخية، لا تخدم دائماً وجه الحقيقة، لكن غض النظر عما فيها من تهافت هو الآخر تصرف غير سليم، وفي رأيي أن هذه الخلافات تشكل حافزاً للبحث والتحري والتنقيب، يضطلع به أولو العزم، ويترك الحكم فيه لأصحاب الذائقة السليمة، والنظر السديد. وما عدا ذلك محض أوهام لا تخدم وجه الحقيقة، ولا تنفع الناس في شيء.