الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ

بواسطة azzaman

إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ

محمد زكي ابراهيم

 

في‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬راجت‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬مقولة‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬وتنقيته‭ ‬مما‭ ‬علق‭ ‬به‭ ‬من‭  ‬شوائب‭. ‬وجرى‭ ‬تكليف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعات‭ ‬بإنجاز‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬وإخراجها‭ ‬على‭ ‬الملأ،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تبين‭ ‬للسلطة‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬محتويات‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬تلائم‭ ‬مزاجها،‭ ‬ولا‭ ‬تمنحها‭ ‬ما‭ ‬تتوق‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬شرعية،‭ ‬وإن‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬شهور‭ ‬حتى‭ ‬أخرجت‭ ‬المطابع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬يحمل‭ ‬شعار‭ ‬اللجنة‭ ‬الخاصة‭ ‬بهذا‭ ‬المشروع‭.‬

‭ ‬والحقيقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تخف‭ ‬عن‭ ‬الجميع،‭ ‬أن‭ ‬سخط‭ ‬هذه‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬التاريخ،‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬إيران‭. ‬ولما‭ ‬كانت‭ ‬الأخيرة‭ ‬شريكة‭ ‬للعراق‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭ ‬والمحن،‭ ‬عدا‭ ‬عما‭ ‬اشتجر‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬نزاعات‭ ‬وحروب،‭ ‬فقد‭ ‬ارتأت‭ ‬الحكومة‭ ‬العراقية‭ ‬أن‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬الثقيل،‭ ‬وتعزز‭ ‬موقفها‭ ‬بنتاج‭ ‬فكري‭ ‬يدعم‭ ‬نشاطها‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬يخالف‭ ‬ما‭ ‬رسخ‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬الناس‭ ‬منذ‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭.‬

‭  ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬متوقع‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬بالنجاح،‭ ‬ولم‭ ‬يتحمس‭ ‬لها‭ ‬أحد‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬السلطة،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬المهمة‭ ‬يسيرة،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عصي‭ ‬على‭ ‬الحسم،‭ ‬أو‭ ‬مفتقد‭ ‬للإجماع،‭ ‬وأذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬أن‭ ‬مؤتمراً‭ ‬للتقريب‭ ‬بين‭ ‬المذاهب‭ ‬عقد‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬تقريباً‭ ‬في‭ ‬النجف،‭ ‬خرج‭ ‬بمقررات‭ ‬تسوية،‭ ‬جرى‭ ‬التنصل‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬أنكر‭ ‬عقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬كهذا،‭ ‬وزعم‭ ‬أن‭ ‬الحادثة‭ ‬محض‭ ‬اختلاق‭ ‬لا‭ ‬غير‭.‬

‭  ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬العراق‭ ‬بالطبع‭ ‬أول‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬حذف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يروق‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬فقد‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬أمم‭ ‬أخرى‭ ‬أيضاً،‭ ‬مثل‭ ‬اليابان‭ ‬التي‭ ‬أخذ‭ ‬زعماؤها‭ ‬يشككون‭ ‬في‭ ‬المذابح‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬جنودها‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1937‭ ‬و1938،‭ ‬ومثل‭ ‬الروس‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬حذف‭ ‬ما‭ ‬ارتكب‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬السوفيتية‭ ‬من‭ ‬مآس‭ ‬من‭ ‬المناهج‭ ‬الدراسية،‭ ‬وكتب‭ ‬التاريخ‭.‬

‭ ‬وحينما‭ ‬يتبنى‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإنهم‭ ‬يقصدون‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬أموراً‭ ‬أخرى،‭ ‬مثل‭ ‬تطور‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي،‭ ‬أو‭ ‬فلسفة‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويفضلون‭ ‬محاكمة‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬نقد‭ ‬منهجي‭ ‬أو‭ ‬واقعي،‭ ‬ويعتقدون‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬تناقضاً‭ ‬واضحاً،‭ ‬أو‭ ‬ميلاً‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭ ‬والأسطورة،‭ ‬ويدركون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬منها‭ ‬وضع‭ ‬بأوامر‭ ‬سلطانية،‭ ‬قصد‭ ‬منها‭ ‬الحط‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الفئات‭ ‬المعارضة،‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تدخل‭ ‬حكومي‭ ‬ينحاز‭ ‬إلى‭ ‬طرف‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬آخر،‭ ‬لأنها‭ ‬تعني‭ ‬معالجة‭ ‬الخطأ‭ ‬بخطأ‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عنه‭ ‬فداحة‭ ‬وإثماً‭.‬

‭ ‬ولأن‭ ‬التاريخ‭ ‬هو‭ ‬أثمن‭ ‬ما‭ ‬ورثته‭ ‬الشعوب‭ ‬عن‭ ‬أسلافها،‭ ‬فإن‭ ‬العبث‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يخدم‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب،‭ ‬وأن‭ ‬الصفحات‭ ‬المعتمة‭ ‬منه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مؤلمة‭ ‬وحزينة،‭ ‬فإنها‭ ‬نافعة‭ ‬أيضاً،‭ ‬لأن‭ ‬الدروس‭ ‬المستخلصة‭ ‬منها‭ ‬غنية‭ ‬بالعبر‭ ‬والدروس،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬حذف‭ ‬الروايات‭ ‬المزيفة‭ ‬إلا‭ ‬بلجان‭ ‬محايدة‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬لهذه‭ ‬الفئة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬صعب‭ ‬وعسير،‭ ‬وقد‭ ‬مارسه‭ ‬المستشرقون‭ ‬الأجانب‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬ما،‭ ‬فأثاروا‭ ‬إعجاب‭ ‬القراء‭ ‬المسلمين‭ ‬بما‭ ‬طبعوا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬موضوعية،‭ ‬وقد‭ ‬تبين‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬استعمارية‭ ‬يخدم‭ ‬بها‭ ‬الغرب‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولم‭ ‬يتحل‭ ‬بالأمانة‭ ‬المطلوبة‭.‬

‭  ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬تبذل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غربلة‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية،‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬دائماً‭ ‬وجه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لكن‭ ‬غض‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تهافت‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬تصرف‭ ‬غير‭ ‬سليم،‭ ‬وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الخلافات‭ ‬تشكل‭ ‬حافزاً‭ ‬للبحث‭ ‬والتحري‭ ‬والتنقيب،‭ ‬يضطلع‭ ‬به‭ ‬أولو‭ ‬العزم،‭ ‬ويترك‭ ‬الحكم‭ ‬فيه‭ ‬لأصحاب‭ ‬الذائقة‭ ‬السليمة،‭ ‬والنظر‭ ‬السديد‭. ‬وما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬محض‭ ‬أوهام‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬وجه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ولا‭ ‬تنفع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬شيء‭.‬


مشاهدات 146
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/11/30 - 12:49 PM
آخر تحديث 2024/12/04 - 9:44 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 417 الشهر 1717 الكلي 10057812
الوقت الآن
الأربعاء 2024/12/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير