لا أستبعد أبداً أن تتحول بعض الحوادث الصغيرة التي تقع في بلادنا، إلى علامة فارقة في تاريخ الأمة، ومحطة انطلاق حقيقية لها نحو المستقبل، وأن يجد الناس فيها نقطة الشروع في حياتهم اليومية.
مثل هذا الأمر حدث مراراً وتكراراً، وتكفلت بتسويقه للناس وسائل إعلام رسمية، في ظروف استثنائية، ولو كانت هذه الحوادث تستحق الإشادة لما كان في ذلك بأس، ولكانت مقدمة منطقية لتطور اجتماعي أو سياسي، سيقع في يوم من الأيام، لكنها لم تكن كذلك بكل تأكيد، وكانت على العكس من ذلك هدراً لطاقات إنسانية كثيرة.
والواقع أن العالم بأجمعه شهد مثل هذه الإرهاصات، وتغاضى عنها، وصنع منها أساطير غذى بها مخيلة أبنائه التواقة لكل ما هو جميل وفاتن، وأسوق منها على سبيل المثال، حادثة طالما وقعت شبيهاتها في بلادنا، ولم تكتشف حقيقة ما فيها من وهم إلا بعد وقت طويل.
هذا المثال يتجسد في واقعة اقتحام سجن (الباستيل) في فرنسا، التي باتت رمزاً لثورة فرنسا العظيمة، وعيداً وطنياً تحتفل به كل عام، ولا يكاد يتوقف عن الإشادة بها أحد في هذا العالم، باعتبارها ملهمة الشعوب الحالمة بالحرية والعدالة والمساواة.
هذا السجن هو في الأصل حصن بني للدفاع عن مدينة باريس، قرب إحدى بوابات سورها في القرن الرابع عشر، وكان يلقى فيه بين الحين والآخر بعض سجناء الرأي من معارضي السلطة، إلا أن هذا لم يكن الغرض الأساسي من بنائه.
وقد ضخم دور هذا السجن أمام الرأي العام في ما بعد، فالغوغاء الذين اقتحموه في 14 تموز 1789 لم يكونوا يريدون تحرير رهينة، أو تحطيم أغلال، أو إيقاف تعسف، بل الحصول على أسلحة يواجهون بها جنود الملك، أما عدد السجناء الذين كانوا فيه لحظة الهجوم فهو (7) أشخاص لا غير، منهم شخص ضعيف العقل احتجز لحمايته، وآخر حجر عليه بطلب من أهله، وثالث (تآمر على حياة الملك لويس الخامس عشر قبل 30 عاماً) ، وكان هناك (4) أشخاص اتهموا بالتزوير!.
لقد كان سقوط الباستيل إذن ليس إشارة بدء الثورة، لأنه لم يكن رمزاً للقمع، أو مكاناً للتعذيب، بل مجرد غرفة يتقاسمها أشخاص منسيون لا يشكلون أي خطر على الدولة، وليس فيهم أي نفع للثورة، لكن الأحزاب المتطرفة جعلت منه عيداً وطنياً لفرنسا حتى يومنا هذا.
مثل هذا الصنيع حدث في بلادنا مرات عديدة، وفي كل مرة كان الكتاب والشعراء والخطباء يتزاحمون للإشادة به، والدعوة إليه، لأنه الحدث الثوري الأهم الذي سينقل العراق إلى مصاف الدول المتقدمة، ويحرره من الاستعمار والتبعية، ويعيد إليه ثرواته المنهوبة، إلا أن ما كان يحدث هو إضافة بعض المظاهر الخادعة التي لا تقدم ولا تؤخر، ولم تزد البلاد بسببها إلا تخلفاً وبؤساً.
وعلة ذلك بالطبع أن التغيير لا يتحقق بعمل (ثوري) يحدث في السر أو العلن، ولا يجري بتظاهرات احتجاج أو زحف دبابات أو رصاص بنادق، وهي أمور كانت تحدث، وماتزال حتى يومنا هذا، بل هو عمل معرفي بالدرجة الأولى، يحدث بهدوء وروية وعمق.
لقد انطلقت الثورة الفرنسية ليس بسبب (أهوال) سجن الباستيل، بل بأفكار عصر الأنوار التي اعتنقتها النخبة في فرنسا وبعض دول أوربا. تلك الأفكار التي جاء بها جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وآخرون في القرن الثامن عشر نفسه، وهو القرن الذي اندلعت فيه الثورة، وحرمت الملك من سلطاته المطلقة وحولته إلى ملك دستوري يملك ولا يحكم، وهذا هو في الواقع المعنى الحقيقي للثورة.