من بين جميع أغاني نجاة الصغيرة، تثير أغنية (أيظن) عندي كآبة مبهمة. كل شيء هذه الأيام يثير كآبتي: كآبة التخوم، كآبة رجل فضاء ضل طريقه فوجد نفسه في مجرة بعيدة بلا عنوان. ورغم ذلك، أخرجت (أيظن) من باطن اليوتيوب، ووضعت صوت الهاتف على قوته، وأخذت أمارس رياضة المشي على سطح الدار تحت الشمس.
شمس الصباح هذا اليوم عملة نادرة؛ فهي في الحد الفاصل بين كل الفصول، تنتمي قليلًا إلى الصيف لكنها ابنة أو أم الربيع والشتاء والخريف. فكرتُ: لو كان الله يبيع ويشتري، لقايضت تلك الشمس بما هو غالٍ وثمين. لكن من سيشتريها؟ ليس غير الفقراء.
الحقيقة، لم أنتبه يومًا لكلمات أغنية (أيظن)، على عكس غريمتها وندّها (ساكن قصادي). وقد لحن الأغنيتين محمد عبد الوهاب، وربما تلاعب عبد الوهاب بمشاعرنا عندما لحن الأغنيتين، كما أسمع (وهذا رأيي)، بنفس الطريقة وذات المقدمة، رغم أن الاثنتين تحكيان قصتين مختلفتين.
(أيظن) من كلمات نزار قباني، وهي قصة تقليدية رومانسية لحب إيجابي ينتهي نهاية سعيدة رغم الزعل والخصام في البداية. كتبها نزار بالفصحى، وهي تتبع أسلوبه المعروف في تصوير الأنثى المقهورة التي لا تستسلم.
على العكس، (ساكن قصادي) تحكي قصة حب مستحيل، حب يائس لم يولد أصلًا. حب من النوع الذي، كما يقول بلزاك، ينتج رواية أو حكاية. فبرأي بلزاك، كل قصة حب من طرف واحد هي رواية.
(ساكن قصادي) كُتبت بالعامية المصرية، من كلمات الشاعر حسين السيد (1916-1983).
كان حسين السيد بهي الطلعة، وسيمًا، شغوفًا بالأدب في شبابه. أراد الالتحاق بكلية الآداب، لكن ظروف عائلته ومسؤوليته عن دكان أبيه حالت دون تحقيق حلمه. ظنّ أنه يمتلك نصيبًا في التمثيل، فتقدم إلى لجنة اختبار عندما قرأ إعلانًا عن الحاجة لممثلين لفيلم (يوم سعيد).
تقدم وأخذ دوره في الطابور، لكنه استمع إلى حديث جانبي بين محمد عبد الوهاب ومعاونيه عن حاجتهم إلى شاعر يكتب أغنية توافق مشهدًا في الفيلم. ترك الطابور وقدم عرضه بكتابة هذه الأغنية. قوبل طلبه بالرفض الشديد، لكنه أصر وألح، فهي فرصة عمره. رقّ قلب عبد الوهاب ومنحه الفرصة مضطرًا. لم يخيب حسين السيد ظنه أبدًا؛ فكانت أغنية (اجري اجري).
بعدها، نمت صداقة بين الرجلين استمرت حتى وفاة الشاعر.
كتب حسين السيد عشرات، بل مئات الأغاني، في كل المجالات: الخفيفة، العاطفية، وحتى الوطنية والدينية. كتب لعبد الوهاب إضافة إلى (اجري اجري): (ياللي نويت تشغلني)، (ماقدرش أنساك)، (الحبيب المجهول)، (تراعيني قيراط)، (صوت الجماهير)، (قالولي هان الود عليك)، (افتكرني)، (قلبي بيقولي كلام)، (كان أجمل يوم)، وغيرها الكثير.
كتب لفريد الأطرش (ارحمني وطمني) و (يا أبو ضحكة جنان).
ولفايزة أحمد: (خاف الله)، (ست الحبايب)، (حمال الأسية).
ولليلى مراد: (أبجد هوز) و(عيني بترف) .
أما لنجاة الصغيرة، فكتب إضافة إلى (ساكن قصادي): (يا مسافر وحدك)، (ع اليادي اليادي)، (شكل تاني)، (القريب منك بعيد)، (ماقدرش أنساك).
وغنت صباح له (أكلك منين يا بطة)، وغنت وردة الجزائرية (في يوم وليلة) و (بعمري كله حبيتك) ، والأهم، غنت له سيد مكاوي أغنيتي المفضلة (خلي شوية عليك).
انتهت (أيظن) ولم تنته كآبتي بالطبع. تحت الشمس كنت أفكر في الكتابة عن مهرجان الجواهري مؤخرًا، والذي يبدو فيه أن اتحاد الأدباء قد تجاوز أزمته. قلت: يبدو. وربما فكرت بانتخاب الشيخ نعيم أمينًا عامًا لحزبه نظرًا لأننا من عمر واحد. لكن هذا النص كتب نفسه بنفسه. وما أنا في النهاية إلا كاتب لنفسي، ولا أدري كيف سيكون حالي وحال من يشبهني في هذا الزمن، حيث كثر الشعراء وقل الشعر.