الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هل التعليم يبني المواطن الذكي ؟

بواسطة azzaman

هل التعليم يبني المواطن الذكي ؟

اسامة ابو شعير

 

حين نسأل إن كان التعليم يبني “المواطن الذكي”، فنحن لا نتحدث عن الذكاء الأكاديمي أو التفوق في الامتحانات، ولا عن الطالب الذي يحفظ أكثر أو يحقق أعلى الدرجات. المقصود هنا نوع أعمق وأشمل من الذكاء: ذكاء المواطن القادر على الفهم، واتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية، والعيش بضمير داخل مجتمع متنوّع ومتغيّر. ذكاء لا يُقاس بالدرجات فقط، بل بالوعي، والقدرة على التفكير، والمشاركة، والانتماء.

في كل مرة يعود فيها النقاش حول التعليم في العراق، نبدأ من النقطة الأسهل: المدرسة. نناقش المناهج، الامتحانات، الأبنية، أعداد المعلمين، ثم نغادر السؤال الأصعب دون مواجهة حقيقية:

هل يعمل التعليم داخل بيئة تساعده على النجاح، أم أننا نطالبه بأن يكون الحل الشامل لمشكلات لم يصنعها؟

تشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة الأمية بين البالغين في العراق ما تزال بحدود 15بالمئة ، أي أن واحدًا من كل ستة عراقيين فوق سن الخامسة عشرة لا يمتلك مهارات القراءة والكتابة الأساسية. وفي المقابل، تُظهر أرقام وزارة التربية أن معدلات الالتحاق بالمرحلة الابتدائية تجاوزت 90بالمئة. ظاهريًا، يبدو أن الطريق إلى المدرسة مفتوح، وأن المشكلة قد حُلّت. لكن السؤال الحقيقي ليس: كم دخلوا المدرسة؟ بل: ماذا خرجوا منها؟

هذه الفجوة بين الالتحاق والتحصيل ليست تفصيلًا تقنيًا، بل مؤشرًا على خلل أعمق في وظيفة التعليم نفسها. الطالب العراقي يدخل المدرسة باستعداد كبير، لكنه لا يخرج دائمًا مواطنًا واثقًا، ولا شابًا قادرًا على فهم واقعه، ولا فردًا مهيأً للمشاركة الفاعلة في المجتمع. وهنا لا تكمن الأزمة في الطالب، بل في الغاية التي صُمِّم النظام التعليمي من أجلها.

التعليم، في جوهره، ليس مسارًا للحصول على شهادة، بل عملية معقّدة تُعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته، وبمجتمعه، وبالدولة. وحين يُختزل التعليم في الدرجات والنسب، يتحول إلى ممارسة إجرائية: حفظ بدل فهم، امتثال بدل مشاركة، ونجاح شكلي بدل بناء حقيقي. كثير من طلابنا يعرفون الإجابة الصحيحة، لكنهم لا يعرفون لماذا يُسألون أصلًا، ولا كيف يوظفون ما يعرفونه خارج ورقة الامتحان.

ومن هنا يبرز السؤال الذي نتجنّب طرحه بصراحة:

هل نُعلِّم الطالب من أجل المواطنة، والعدالة، والضمير، والهوية؟

نظريًا، نعم.

لكن عمليًا، الصورة أكثر تعقيدًا.

نقول إننا نُعلّم للمواطنة، بينما يمر الطالب بسنوات دراسته دون أن يتعلّم كيف يختلف باحترام، أو كيف يناقش قرارًا، أو كيف يربط بين حقه وواجبه. المواطنة لا تُكتسب من درس نظري، بل من ممارسة يومية داخل المدرسة: حين يُسمَع صوت الطالب، وحين يُدار الخلاف بالحوار، وحين يشعر أن القانون ليس شعارًا بل سلوكًا.

ونقول إننا نُعلّم للعدالة، بينما يعيش الطالب تناقضًا واضحًا بين ما يُقال له في الصف وما يراه في الواقع. العدالة ليست مفهومًا أخلاقيًا مجردًا، بل تجربة معيشة. وحين يشعر الطالب أن الجهد لا يُكافأ دائمًا، أو أن الفرص غير متكافئة، يتعلّم درسًا معاكسًا تمامًا لما نعلنه في المناهج.

أما الضمير، فلا ينمو في بيئة تُكافئ الطاعة أكثر من النزاهة، ولا في نظام يخشى السؤال أكثر مما يخشى الخطأ. الضمير يتشكّل حين يُعطى الطالب مساحة للاختيار، وتحمل المسؤولية، والتفكير الأخلاقي، لا حين يُدرّب فقط على الإجابة النموذجية.

والهوية، في السياق العراقي، هي التحدي الأكثر حساسية. بلد متعدد الهويات يحتاج تعليمًا يبني هوية وطنية جامعة، لا هويات متجاورة صامتة أو متصارعة. الهوية التعليمية لا تُبنى بالشعارات، بل بسردية مشتركة للتاريخ، تعترف بالألم دون أن تقدّسه، وبالتنوّع دون أن تحوّله إلى انقسام.

ولعل ما يفسّر هذا الخلل أن التعليم لا يعمل في بُعد واحد، بل في ثلاثة أبعاد متداخلة.

الأول هو التأهيل: المعرفة، والمهارات، والشهادات.

الثاني هو التنشئة: القيم، والانتماء، وفهم المجتمع.

أما الثالث، والأكثر إهمالًا، فهو تشكّل الذات: بناء الفرد القادر على التفكير المستقل واتخاذ القرار.

المشكلة ليست أننا أهملنا البعدين الثاني والثالث فقط، بل أننا حتى في البعد الأول نفسه نمارس اختزالًا خطيرًا. فنحن نُراكم معرفة نظرية على حساب المهارة الفعلية. نقيس كم يعرف الطالب، لا ماذا يستطيع أن يفعل بما يعرفه. نكافئ من يسترجع المعلومة بسرعة، لا من يوظّفها في موقف جديد. وهكذا تتحول الـ 99بالمئة إلى دليل على إتقان نمط الامتحان، لا على امتلاك قدرة حقيقية.

بهذا المعنى، نحن لا نُفرغ التعليم من القيم فقط، بل نُفرغه من الكفاءة أيضًا. ولذلك يتعثر كثير من الخريجين في الانتقال إلى سوق العمل، أو في التعلّم الذاتي، أو في التعامل مع واقع متغيّر لا يشبه الكتاب المدرسي.

لكن حتى لو اتفقنا على هذا التشخيص، تظهر مشكلة بنيوية أخرى:

لدينا داخل العراق نماذج تعليمية جيدة، مدارس ومعلمون ومبادرات ناجحة، لكننا نفشل في تعميمها. المشكلة ليست في غياب الحلول، بل في ضعف القدرة المؤسسية على البناء والتوسّع. نراقب النتائج أكثر مما نستثمر في القدرات، ونحاسب المدارس دون أن نوفّر لها أدوات التحسين، فتتحول الجودة إلى استثناء لا إلى قاعدة.

ولا يمكن فصل التعليم عن واقعه الاجتماعي. الطالب الذي يعيش في بيئة غير مستقرة، أو ينتقل بين مدارس بسبب الفقر أو النزوح، لا يمكن أن نطالبه بنتائج “طبيعية” في نظام غير طبيعي. التعليم يتأثر بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وحين نُحمّله وحده مسؤولية الفشل، نُعفي بقية السياسات من دورها.

ثم يأتي التحدي الجديد في عصرنا: الانتباه في زمن الإلهاء الرقمي. اليوم، لا تتنافس المدرسة مع مدارس أخرى فقط، بل مع منصات مصمَّمة لالتقاط انتباه الطالب لساعات طويلة. والتعليم الذي لا يعلّم كيف نركّز، وكيف نفكّر بعمق، وكيف نُدير علاقتنا بالتكنولوجيا، سيخسر معركته مهما حسّنا المناهج.

الخاتمة: الذكاء الذي نحتاجه اليوم

يبقى السؤال الذي يختبر جدية أي إصلاح: أي ذكاء نريد من تعليمنا؟

لسنا بحاجة إلى ذكاء الامتحان فقط، بل إلى ذكاء مدني وأخلاقي وعملي: مواطن يفهم واقعه، يميّز بين الحق والباطل، يتقن ما يتعلّمه، ويعرف كيف يستخدم معرفته لخدمة نفسه ومجتمعه ووطنه.

وحين نقيس ما نريده حقًا من التعليم، يمكننا أن نُصلحه بعمق. فالمواطنة تُرى في السلوك والمشاركة، والعدالة في تضييق الفجوات، والضمير في النزاهة وتحمل المسؤولية، والهوية في الانتماء الواعي لا في الشعارات.

هذه ليست أدوات رقابة، بل أدوات فهم وبناء.

فالسؤال الحقيقي ليس:

كم طالبًا حصل على 99 بالمئة في الامتحان؟

بل: كم مواطنًا ذكيًا تخرج من المدرسة وهو يعرف من هو، وما مسؤوليته، وكيف يُفكّر، ولأي وطن ينتمي.

 

 خبير اقتصادي ومستشار دولي في التعليم والتنمية


مشاهدات 69
الكاتب اسامة ابو شعير
أضيف 2025/12/23 - 11:36 PM
آخر تحديث 2025/12/24 - 1:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 68 الشهر 17589 الكلي 13001494
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير