كانون الذي سرق قلبي.. غابت إبنتي وبقي الشهر

هدير الجبوري

آخر شهر في السنة ليس مجرد رقم على تقويم، ولا بوابة زمنية نعبرها بالتهاني والأمنيات هو شهر ثقيل، تتقاسمه القلوب بين فرح معلن وخوف مكتوم.

البعض يحتفل لأنه يودع عاماً مضى، والبعض يتوجس مما سيحمله العام الجديد من مفاجآت وأقدار وربما فقد لبعض الأحبة. أما أنا، فلي مع هذا الشهر حكاية لا تشبه سواها.في الماضي لم أكن أحبه كان يقلقني لأنه يضيف إلى عمري عاماً آخر، ولأن فكرة التقدم في السن كانت تزعجني أكثر مما تعلمني كنت أراه عبئاً زمنيا لا أكثر، لكن الزمن يعرف كيف يبدل مخاوفنا الصغيرة بأوجاع كبرى، وكيف يمنح للأشهر وجوهاً لا تُنسى.

عقدان وسبع سنوات مرّت،،وظل هذا الشهرمقترن بذكرى موجعة لا تشيخ ،فيه فقدت أبنتي الوحيدة، الحلم الذي سبق عمره، والأمل الذي كان يكفي ليملأ الحياة كلها. برحيلها لم أفقد طفلة فقط، بل فقدت جزءاً مني، شيئا ظل مبتوراً حتى اليوم ،منذ ذلك الوقت وأنا أعيش ناقصة، كأن الفرح لا يكتمل أبداً، وكأن كل ابتسامة تحتاج اعتذاراً خفياً لأنها لا تشبه ما كان يمكن أن يكون...

بعض الأشهر لا تمر، بل تقيم فينا، تحمل ذاكرتنا الموجعة معها أينما ذهبنا، مهما حاولنا القفز فوقها أو التحايل على وجعها وهذا الشهر واحد منها. يعود كل عام لا ليذكرني بما فقدت فقط، بل ليؤكد لي أن بعض الغياب لا يتقادم.

كنت أريد بها أن أعوض عمراً لم أعشه ، كنت أريد أن أمنحها كل ما حُرمتُ منه أنا ، أن أشتري لها كل ما لم أستطع امتلاكه يوماً ما ، أن أهبها العالم بيدي، وحتى عمري إن لزم الأمر. كانت مشروع فرحي المؤجل، والعدالة التي كنت أبحث عنها للحياة.

برحيلها أغلقت على نفسي باب التجربة وعاهدتها أن أعيش على ذكراها فقط. لم أرد أن أخوض فقداً آخر، ولم أشأ أن أكرر الكسر ذاته ، لهذا لا يفهم البعض إصراري على البقاء وحيدة بعد رحيلها.

لا يعرفون أن الخوف ليس من الوحدة، بل من الفقد، كنت أخشى أن تُظلم كما ظُلمت أنا، أن تمر بتجربة شبيهة بما عشته، وربما أسوأ ،وربما لا، لا أحد يعرف ...الأقدار لا تشرح اختياراتها.

هي الأقدار، تمنحنا ما تريد في الوقت الذي تريد، دون أن تترك لنا حق الاعتراض.

 كل ما تفعله أنها تمضي، ونمضي معها، نحمل ما تبقى منا ونحاول أن نبدو أقوياء.

 ومع كل نهاية عام، أتعلم أن بعض الأعوام لا تنتهي، وبعض الأشهر لا تُغلق، وأن الحزن حين يرتبط بالذاكرة يصبح وطناً نقيم فيه، مهما تغيرت السنوات.