تطواف الغريب (1)
حسن النواب
أواخر عام 2003؛ لم أصدّق جلوسي على مقعد الطائرة لأول مرة في حياتي، وهي تحلّق من مطار دبي لمدة 11 ساعة ونصف في سماوات مجهولة؛ حتى هبطتُ منها بصفة لاجئ إِلى مطار مدينة بيرث في غرب قارة أستراليا. لما استقر بي الحال في شقة صغيرة، عدت لمزاولة هواية التسكع التي أعشقها والتي أدمنتُ عليها؛ مذ أرغمتني محنة الحصار أنْ أكون صعلوكاً في بغداد لسنوات طويلة. حصلتُ على خريطة المدينة من جاري الفرنسي، وحين نشرتها فوق الطاولة بحثاً عن الأماكن السياحية، لا أدري لماذا اخترت حديقة الكنز بارك نقطة انطلاق أولى لاكتشاف معالم هذه المدينة الوديعة في كل شيء لولا شراسة سكانها الأصليين؟ طويت الخريطة وخبأتها في جيبي قاطعاً المسافة من شقتي مشياً على الأقدام نحو حديقة الكنز بارك وقد امتلأت رئتاي بهواء منعش، بعد ساعة من الوقت وصلتها بعد مروري بشارع أنيق يدعى جورج ترس كانت تظلّلهُ أبراج شاهقة من الجانبين.
حديقة Kings Park، يعتقد كثيرون أنَّ اسمها يعني حديقة الملوك، لكن ترجمتها الدقيقة هي حديقة الشهداء، شيّدت إكراماً لجنود أستراليين قضوا نحبهم بالحربين العالميتين الأولى والثانية، دوّنت أسماؤهم على نصب مخروطي من الحجر وأضيفت لهم أسماء الجنود الذين قتلوا في العراق وأفغانستان، الحديقة تربض بشكل خرافي فوق هضبة ترتفع مئات الأمتار عن مستوى سطح البحر، ولشدة ارتفاعها ترى السيارات بمركز المدينة بحجم علبة كبريت وتصبح أبراجها وعماراتها واطئة أمام ناظريك حتى تتوهّم أنَّ بوسعك احتضانها بين ذراعيك، مثلما تتيح للزائر رؤية الغابات والحقول الكثيفة عند مشارف المدينة وهضابها البعيدة، يحيط بجانبها الغربي نهر «سوان» الذي يشطر المدينة إِلى نصفين، وهي منطقة سياحية أثيرة لدى السائح القادم لمدينة بيرث، لروعة أشجارها العملاقة وهندسة حدائقها الغنّاء ولسحر أنارتها الخلابة، وشعلة النار الليزرية المتوهجة طوال الوقت في قلب الحديقة والتي تشير لتضحية الشهداء، مع توفر الحانات ومقاهي الكوفي شوب ومتحف صغير يضم لوحات بنقوش ملونة تبدو غريبة وغير مألوفة رسمها السكان الأصليون والذي يطلقون عليهم تسمية الأَبروجنول. يزور هذه الحديقة أكثر من ستة ملايين شخص كل عام، حضورٌ كثيف تشهده الحديقة في موسم الصيف، ويصبح الزحام على أشده عندما تحتفل مدينة بيرث بمناسبة Australia Day، من هذه الحديقة يمكن مشاهدة انفلاق الألعاب النارية بتشكيلات ضوئية فوق نهر سوان مع غروب الشمس وضحكات «طائر الكوكوبارا» ابتهاجا بهذا اليوم الوطني، لساعة من الوقت تبقى تومضُ بسماء المدينة، مع صيحات المحتفلين بصوت أو برالي… أُوزي… أُوزي Aussie وهي كلمة دلع تُطلق على المواطن الأسترالي.
ويبقى الاحتفال بهذا اليوم مسألةً مثيرةً للجدل خصوصاً لدى السكان الأصليين « الأبروجنول «، حيث يعتبرونه مأتماً وليس كرنفالاً من وجهة نظرهم وذلك لتدمير بريطانيا لشعب أستراليا الأصليين، ويفضّلون تسميته بيوم الاحتلال وهو اليوم السادس والعشرين من شهر كانون الثاني عندما تمَّ أحياء ذكرى وصول أول أسطول بحري بريطاني، والمكون من 11 باخرة إِلى أستراليا وذلك في عام 1788، حيث جاء البريطانيون وأنشأوا مستعمرتهم في نيو ساوث ويلز عند الساحل الشرقي من هذه القارة التي وهبها الله خيرات وفيرة، الطريف بهذا الاحتفال أنَّ بعض السكان الأصليين ينتهزون هذا اليوم لشرب كميات كبيرة من النبيذ الذي يوّزع مجانا في بعض الحانات وعندما ينال السُّكر منهم يصرخون احتجاجا بوجوه الحشود المحتفلة ومن أعراق شتى وجنسيات مختلفة:
- أخرجوا من وطني.
أسمعَني «أبروجنول» ثمل هذه العبارة القاسية قبل خروجي من الحديقة، ظلَّ ينظر نحوي هازئا، كرع جرعة نبيذ من عبوّة بلاستيكية أخرجها من جيب معطفٍ بالٍ وقذر، يضعون خمرتهم بقناني الماء حتى يبعدون أنظار الشرطة عنهم، رعشة خوف سرت بأوصالي عندما تأملّت رأسه الضخم وشعره المحلزن كأنه عش غراب وسحنته التي تشبه لون الجاموس مع زبدٍ كريه يسيل من فمه الواسع كنقرة زفت، مسح شفتيه الغليظتين بأصابعه، تخيلتها أفاع سوداً، قلت أستدّر عطفه لئلا يهجم عليَّ:
- أنا من العراق.
لم يفهم كلمة IRAQ، طلب توضيحاً بنبرة مسعورة، ابتعدت خطوات للوراء حين اقترب مني… مرتبك خاطبته لأهدئ من روعه:
- أخي، العراق وطني وكان قد تعرض لهجوم من أمريكا.
عندما سمع كلامي تبسَّم بوجهي وبرزت أسنانه العريضة التي غزاها التسوّس، هزّ رأسه مثل شجيرة وحشية تحركها الريح… قال متأسفاً:
- أنا اعتذر لأني ظننتك كلب مشرّد جاء من بريطانيا.
مدّ يده الخشنة أمام نظري ليشحذ بعض النقود، ظل يمشي مترنحاً خلفي ويكرر:
- أنا أعتذر سيدي. أشفقتُ عليه، من حقيبتي أخرجتُ عشرة دولارات، حين لمحها شهق فرحا وبخفّةٍ خطفها من بين أصابعي ثم همَّ ليقبّل يدي، لم أدعه يحقق رغبته، حين غادرته ظلَّ صوته يزأر من الغبطة: – شكراً لقلبك الطيِّب.