لا تتوهموا رضا الشعب
تحليل رقمي للانتخابات العراقية الأخيرة (1)
منقذ داغر
"في الديموقراطية الحقيقية، يحصل الناس على الحكومة التي يستحقونها" اليكسز توكفيل
"انتخابات مفصلية"...هذا هو الوصف الادق للانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في 11 نوفمبر 2025. فقد شهدت تلك الانتخابات صعوداً كبيراً على ثلاث مستويات: نسبة المشاركة، وعدد المرشحين، والمال الذي أُنفق سواءً على الدعاية الانتخابية او على أشياء أخرى ترتبط بالانتخابات مباشرةً. وقد ترافق هذا الصعود الثلاثي مع هبوط ثلاثي ايضاً، الأول في نسبة التشكيك بنزاهة الانتخابات مقارنةً بالانتخابات السابقة، والثاني في نسبة المقاطعين للانتخابات أما الثالث ففي منسوب الخطاب الوطني العراقي الذي بدى ضعيفاً سواءً مقارنةً بالخطاب الطائفي الديني والاثني الذي ساد بشكل اكبر هذه المرة مقارنةً بضعف ذلك الخطاب خلال انتخابات 2018 و 2021. وكما عودت القارىء فسأغوص عميقاً في لغة الأرقام لتحليلها واستنتاج اهم الدروس السياسية منها عبر حلقات متسلسلة تعالج مختلف زوايا الانتخابات.
نسبة المشاركة في الانتخابات
كسابقتها فقد اعتمدت هذه الانتخابات التصويت الإلكتروني،والذي يستلزم حصول كل الناخبين المؤهلين eligible voters على بطاقة الناخب الالكترونية ان أرادوا المشاركة في الانتخابات. لقد بلغ عدد الناخبين العراقيين المؤهلين (ممن هم اكثر من 18 سنة عمراً ولديهم بطاقات انتخابية) ما مجموعه 21.4 مليون ناخب. وبما ان عدد العراقيين الذين هم اكثر من 18 سنة ممن يحق لهم التصويت هو 29,262,588 مليون شخص،فهذا يعني ان هناك 7,862,880 مليون عراقي (حوالي 27% من كل الناخبين المحتملين) لم يشاركوا اما لانهم اختاروا عدم المشاركة او المقاطعة، أو لأسباب فنية وإدارية منعتهم من الحصول على بطاقة الناخب البايومترية. وبحسب اعلان المفوضية العليا للانتخابات فقد شارك في التصويت في هذه الانتخابات 12,003,143 عراقي. هذا يعني ان نسبة المشاركة Turnout بلغت حوالي 56%. أما اذا احتسبنا نسبة من شاركوا قياساً الى اجمالي عدد العراقيين اكبر من 18 سنة عمراً فستنخفض نسبة المشاركة الى 41%. مع ذلك فأن من الواضح ان نسبة المشاركة اعتماداً على العدد الكلي للعراقيين في هذه الانتخابات كانت اعلى من السابق وهي افضل بكثير مما كان يتوقع معظم المراقبين.
مع ذلك فأن هذا الارتفاع الملموس في نسبة المشاركة لا يعكس بالضرورة تحسن في مزاج الشارع العراقي تجاه النظام السياسي والأحزاب المتنافسة. لقد شهد يوم الانتخابات حدثين رئيسين قد يكونا اثرا بشكل واضح في سلوك الناخبين ودفعهم للمشاركة الأعلى بخاصة في مناطق بغداد وجنوبها. تمثل الحدث الأول بفيديو قديم تم نشره والترويج له يظهر فيه ممثل المرجعية العليا في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي وهو يدلي بصوته في الانتخابات مما اعتُبر من قبل الكثيرين على انه دعوة من المرجعية للمشارة في الانتخابات. وعلى الرغم من ان الفيديو كان قديماً الا ان الكثيرين تداولوه وصدّقوه حتى ان السيد مقتدى الصدر رد عليه مخاطباً الشيخ الكربلائي: (كنا نأمل منك الأفضل لإنقاذ العراق). اما المتغير الثاني المهم جداً فقد تمثل بالزيادة الفلكية في عدد مراقبي الكيانات في مراكز الاقتراع حيث وصل عددهم الى مليوني مراقب وهو ما يعني وجود مليونَي صوت مسبق في صناديق الانتخاب بحكم وظيفة وعمل هؤلاء المراقبين الذين لم تتجاوز اعدادهم في كل الانتخابات السابقة سوى عدة الاف فقط من المراقبين. ولولا الأموال التي دفعت لهؤلاء بصيغة أجور عمل فلربما قلت نسبة المشاركة بشكل كبير. ان ما يدلل على أهمية هذين المتغيرَين بشكل واضح هو تلك القفزة الكبيرة في اعداد الناخبين والتي حصلت في النصف الثاني من يوم الانتخابات. ففي بعض المحافظات والمناطق بخاصة في بغداد وجنوبها مثل ميسان والنجف وذي قار وبغداد الرصافة تضاعفت نسبة المشاركة في الساعات الستة الأخيرة من يوم الانتخابات بنسبة تصل الى حوالي 150%.
من جهة أخرى فان عدد الأصوات الباطلة هذه المرة وصل الى حوالي 730 الف صوت أي 6% من مجمل أصوات الناخبين، وهو ما يعكس ليس مجرد أخطاء في ملء بطاقة الاقتراع وانما رغبة مقصودة في مقاطعة الانتخابات من قبل أولئك الذين أُجبروا على ما يبدو للذهاب لصناديق الاقتراع بخاصة في الاقتراع الخاص. واذا احتسبنا نسبة المشاركة بحسب الأصوات الصحيحة فقط مقارنة بعدد العراقيين الكلي (أكبر من 18 سنة) فان نسبة المشاركة ستنخفض الى 38.5% وهي قريبة جداً من نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة والتي اعتمدت ايضاً التصويت بالبطاقة البايومترية. ولا تقف القصة عند هذا الحد،فاذا حللنا مجمل الأصوات التي حاز عليها أعضاء البرلمان الجديد فسنكتشف لماذا على السياسيين والمراقبين والمحللين ان يضبطوا ايقاعهم واستنتاجاتهم تجاه الانتخابات والبرلمان الناجم عنها.