الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ولاية البطاطا وكرامات التفاهة

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

ولاية البطاطا وكرامات التفاهة

ياس خضير البياتي  

 

حضرتُ معرض الشارقة للكتاب 2025 ضيفًا لتوقيع كتابين، وأنا أظنّ أنّني أدخل محرابًا تُضاء فيه سرائر المعرفة، فإذا بي أجد نفسي في ساحةٍ يعلو فيها صخب البطون على همس العقول. أمامي جمهورٌ تتلوّى طوابيره كأفعى لا نهاية لها؛ لا تزحف نحو كتب الفكر ولا تنشد الأدب، بل تنساب إلى كتاب الشيف الأشهر، الذي يوزّع توقيعاته كما لو أنّه يسكب أسرار الخلود في وصفة كعكٍ بالزبدة.

وعلى الضفة الأخرى من القاعة، وجدتُ جمهورًا آخر يتهافت على فتاوى الدين وغيبيّات الماضي وكتب التجميل ونجوم التفاهة، بينما كتب الفكر تؤدي دور الكومبارس في مسرحية هزلية عنوانها: «كيف نأكل أسرع مما نفكر».

رأيتُ في المعرض مشهدًا يوجع القلب ويثير السخرية معًا: مفكر عربي كبير يسير بخطوات هادئة بين الأروقة، محمّلًا بتاريخ طويل من الفكر والكتابة، لكن لا أحد يلتفت إليه، ولا حتى نظرة عابرة من باب الاحترام أو الإعجاب.  فيما على الجانب الآخر يتجمّع الجمهور كالسيل الجارف حول مؤلفين صبيان من نجوم «السوشيال ميديا»، يلتقطون الصور معهم ويهتفون بأسمائهم كأنها يوم المعشر.

جلستُ على طاولة التوقيع، أمامي كتابان يصرخان بالمعرفة، لكن الصراخ ضاع وسط جلبة «كعك في دقيقة» و»ابتسم ولا تيأس بسرعة». لم يقترب مني سوى حفنة من الأصدقاء، بعضهم جاء بدافع الشفقة، وبعضهم ليقرأ الفاتحة على جنازة العقل العربي الذي دُفن تحت أطنان من السكر والدجاج المشوي. أحدهم قلّب صفحات كتابي بسرعة، كأنه يخشى أن يفسد مذاق القهوة إذا أطال النظر في جملة فلسفية.

في الزاوية الأخرى، كان الشيف يوزّع ابتسامات مصنوعة من الكريمة، يلتقط الصور مع المعجبين الذين يظنون أن توقيعه سيمنحهم مناعة ضد الجوع الأبدي. أما أنا، فقد اكتفيت بتوقيع يشبه شهادة وفاة للثقافة، أكتبه وأنا أتساءل: هل صار العقل العربي يبحث عن نفسه في مقادير البرياني بدلًا من معاني المتنبي؟

أنا لا أقول إنني ضد معارض الكتب، ولا أزعم أن كل من يرتادها يذهب ليبحث عن وصفات البطون أو الغيبيات الدينية أو ألعاب البلادة، فالمعرض يظل فضاءً رحبًا للكتاب والقراء على اختلاف اهتماماتهم. لكن ما أردت الإشارة إليه هو ذلك التحول المقلق نحو ثقافة التفاهة؛ حيث تتصدر المشهد كتب التسلية السريعة والطبخ والغيبيات والتحفيز السطحي.

خرجتُ من القاعة وأنا أحمل كتابي مثل شاهد قبر، وأتأمل الطوابير التي تهتف للشيف كأنه نبيّ جديد أُرسل ليعلّم البشرية كيف تُطهى البطاطا.

 

yaaas@hotmail.com

 

 


مشاهدات 25
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/11/23 - 3:50 PM
آخر تحديث 2025/11/24 - 12:40 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 17206 الكلي 12678709
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير