الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بين الخلافة والشهادة وولاية الفقيه: في تباين أطروحتين للسيد محمد باقر الصدر

بواسطة azzaman

بين الخلافة والشهادة وولاية الفقيه: في تباين أطروحتين للسيد محمد باقر الصدر

محمد عبد الجبار الشبوط

 

يُعد السيد محمد باقر الصدر من أكثر المفكرين الإسلاميين تركيبًا وعمقًا في التنظير السياسي الإسلامي المعاصر، وقد قدّم أطروحات متعددة في مراحل زمنية متقاربة، منها:

            •           “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء” (1979): كتاب نظري فلسفي، قرآني–اجتماعي، يقدّم رؤية تأسيسية للدولة من خلال ثنائية الخلافة والشهادة.

            •           “لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران” (1979 أيضًا): وثيقة سياسية–دستورية تدعم نموذج ولاية الفقيه الذي تم اعتماده في إيران.

لكن عند المقارنة بين العملين، يظهر تباين واضح بين الرؤيتين، على صعيد البنية النظرية، والموقف من السلطة، وموقع الأمة، وطبيعة المرجعية. ويمكن تلخيص هذا التباين ضمن النقاط التالية:

أولًا: موقع الأمة من السلطة

في “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”:

            •           الأمة هي الوارثة الشرعية لحق الخلافة، بناء على الآية: “إني جاعلٌ في الأرض خليفة”.

            •           تمارس الأمة السلطة بشكل أصيل، لا نيابةً عن أحد.

            •           المرجع لا يحكم، بل يشهد ويهدي ويحرر، ولا يجمع بين موقع الشهادة والخلافة إلا المعصوم.

في “اللمحة التمهيدية”:

            •           الأمة تُعد مصدرًا للشرعية بشرط وجود الولي الفقيه الجامع للشرائط، الذي يحكم باسم الشريعة.

            •           الولي الفقيه يجمع القيادة الدينية والسياسية، مع امتيازات شبه مطلقة.

            •           الأمة تبايع وتشارك، لكنها لا تملك السيادة الكاملة.

التحليل: كتاب “الخلافة والشهادة” ينطلق من مبدأ تفويض إلهي مباشر للإنسان (الأمة)، بينما “اللمحة” تقيّد ممارسة الأمة للسلطة بوجود وسيط فقيه متصدٍّ، يمارس نيابة عامة عن الإمام الغائب.

ثانيًا: وظيفة المرجع الديني

في “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”:

            •           المرجع يؤدي وظيفة الشهادة، لا الخلافة.

            •           لا يجوز له أن يجمع بين الوظيفتين في غيبة المعصوم.

            •           الشهادة وظيفة أخلاقية–قِيَمية–معرفية، لا سلطوية.

في “اللمحة التمهيدية”:

            •           المرجع (الولي الفقيه) يحكم، ويقود الدولة، ويعيّن السلطات، وله حق الفيتو على القوانين والقرارات.

التحليل: في “الخلافة والشهادة”، المرجعية مؤسّسة قيمية، أما في “اللمحة”، فهي سلطة عليا مطلقة في الدولة، بما يقارب مقام الإمامة.

ثالثًا: طبيعة النظام السياسي

في “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”:

            •           نظام يقترب من ديمقراطية مقيدة بالقيم (المرجع يوجّه، والأمة تحكم).

            •           دعوة واضحة إلى فصل الشهادة عن السلطة التنفيذية.

            •           المشروع يضمن حضور الدين دون الوقوع في الاستبداد الديني.

في “اللمحة التمهيدية”:

            •           نظام ثيوقراطي جمهوري، يُنتخب فيه الرئيس والبرلمان، لكن تحت وصاية الفقيه.

            •           لا فصل واضح بين القيادة الروحية والسياسية.

التحليل: نموذج “الخلافة والشهادة” أقرب إلى دولة مدنية بقيم دينية، أما نموذج “الولاية” فهو دولة دينية بغطاء جمهوري.

ملاحظة ختامية: التراتبية الزمنية ودلالاتها

من المهم الإشارة إلى أن السيد محمد باقر الصدر كتب “اللمحة التمهيدية” في بدايات عام 1979، كوثيقة دعم سياسي للثورة الإسلامية الإيرانية الناشئة، وربما في سياق تعاوني–دعمي مع تيار الإمام الخميني. أما “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”، فقد كتبه في أواخر العام نفسه، أو في بدايات 1980، ضمن لحظة فكرية أكثر تحررًا وتجريدًا وتأملًا.

وهذا يعني أن كتاب “الخلافة والشهادة” يمثل الرؤية الناضجة والأخيرة للصدر في تنظيره للدولة، وقد يكون محاولة لإعادة ضبط المفاهيم السياسية الدينية، وفصل الدين عن الحكم التنفيذي دون فصله عن الحياة العامة.

وبذلك، فإن من يرى في التباين بين الكتابين تناقضًا، قد يفوته إدراك تطوّر السياق والوظيفة، والأهم: تطور الفكر نفسه عند السيد الصدر، من التأييد البراغماتي إلى التنظير الحضاري.

خاتمة: أي الرؤيتين أقرب للدولة الحضارية الحديثة؟

من منظور مشروع الدولة الحضارية الحديثة (د.ح.ح)، فإن رؤية السيد الصدر في “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء” هي الأقرب إلى المبدأ الحضاري، لأنها:

            •           تمنح الأمة السيادة السياسية الفعلية

            •           تحفظ المرجعية في موقعها الروحي والمعرفي

            •           تُبقي الدين هاديًا لا حاكمًا

            •           تفصل الوظائف المؤسسية بطريقة تمنع الاستبداد الديني

            •           تفتح الباب أمام الحرية والمواطنة والقانون في إطار قيمي متين

في حين أن نموذج “اللمحة التمهيدية”، رغم ما فيه من نوايا صالحة، يؤدي عمليًا إلى مركزية مفرطة وتداخل خطير بين الديني والسياسي، قد يعيق تطور الدولة الحديثة.


مشاهدات 64
الكاتب محمد عبد الجبار الشبوط
أضيف 2025/07/28 - 3:26 PM
آخر تحديث 2025/07/29 - 2:32 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 488 الشهر 19704 الكلي 11173316
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير