الإنتخابات .. والرونق الجمالي للمدن والحواضر
احمد طلال البدري
لاشك ان مهام الادارة الحديثة لا يقتصر على مهام الضبط الاداري التقليدي المتمثل بالحفاظ على الامن العام والصحة العامة والسكينة العامة ، وانما تطورت مع نمو و تطور الحواضر والمدن ولاسيما العواصم والمدن الكبيرة والرئيسية لتشمل مايعرف في القانون الاداري بمهمام الضبط الاداري المتخصص الذي يركز على الحفاظ على رونق المدن وجماليتها كجانب مهم ورئيسي من نشاطات الادارة الحديثة ، فتجميل المدن المكتضة بالسكان والبنايات الحديثة وعزل المنشآت الحديثة عن الاثار والمناطق التراثية القديمة للحفاظ عليها والسماح بالاطلاع عليها وزيارتها دون الاخلال بالطابع الحديث للمدينه اصبح من صميم مهام الادارة بكافة تخصصاتها البلديه وغير البلدية ، بهدف نشر مشاعر الراحة عند مشاهده هذه المناظر والاستمتاع بجماليتها مما يعكس طابع التحضر والنظام ، فضلاً عن ذلك ان ان تحقيق المظهر الجمالي الحسن للشارع والحدائق العامة والجزرات الوسطية والساحات والجسور يحقق احد جوانب السكينه العامة ويعطي شعوراً عاماً بالارتياح والاستقرار النفسي والذهني ويدفع الافراد الى احترام النظام ، لان الفوضى في المناطق التي تشيح عنها الانظار تعطى انطباعاً بانعدام النظام ويشجع بالتالي على الفوضى ، وهذا مايطلق عليه في فقه القانون الاداري بالتزام الادارة بالحفاظ على جمال الرونق والرواء او الذوق العام الجمالي ، ويقصد بجمال الرونق والرواء ظهور المباني والمنشآت بشكل منظم وحسن من حيث الاتساق والالوان والارتفاع والتشجير وتنظيم الساحات وترميم المناطق الاثرية وهذه المهام ذات علاقه وثيقه بما يعرف بالبيئة العمرانية ، لذلك ذهب جانب من الفقه الاداري الى عد جمال المدن ورونقها احد عناصر النظام العام المستقله ويتوجب على الادارة التدخل لحماية جمالية المدينه ضد اي انتهاك مادي او معنوي ينال من نطاق مفهوم جمال الرونق والرواء وخصوصاً انها تنطوي على جانب معنوي يمس مشاعر واحاسيس الافراد وحقهم بالاستمتاع بمظاهر الجمال والسكينه اثناء التنقل بالمدينه ، وقد كان للقضاء الاداري الفرنسي موقفاً من مفهوم النظام العام الجمالي حيث منع تدخل الادارة في صون المظهر المنمق والمحافظة على جمال الرواء الا في حالة وجود نص صريح يسمح للادارة بذلك ، الا انه عدل عن هذا الاتجاه لاحقاً في حكم صدر له عام 1936 فيما يعرف بقضية (اتحاد نقابات مطابع باريس) اجاز فيه للادارة التدخل لحماية النظام العام الجمالي حتى في ظل غياب نص قانوني يجيز للادارة بالتدخل ، حيث رد القضاء الاداري الفرنسي دعوى اتحاد نقابات مطابع باريس المقامة ضد الادارة لاصدارها احدى اللوائح الضبطية تمنع فيها توزيع المنشورات والاعلانات على المارة في الشوارع ، لان المارة في الغالب سوف يلقي هذه الاوراق والمنشورات بعد قرائتها في الشارع والاماكن العامة ، وهذا من شأنه انتهاك جمال ومنظر العاصمة والشوارع والاماكن العامة .
عاصمة مشهورة
كما في حكم اخر له منع بعض الشركات الفرنسية التي تعمل في مجال التوصيل السريع لطلبات التجهيز عبر الانترنيت والمواقع والصفحات الالكترونية من استخدام المتاجر التقليدية في بعض شوارع العاصمة المشهورة كمخازن مظلمة ، وانه يجب ان تستخدم هذه المخازن لاغراض انشائها وهي لعرض البضائع لا تخزينها لان استخدامها وفق الاغراض المرخص لها تجعل من الشوارع منارة بالاضواء وحركه الجمهور مما يضفي الرونق والجمالية على الشارع بدلاً من استخدامها كمخازن مظلمة مع وجود شاحنات كبيرة للنقل ، والحقيقة هذه الامثلة التي سقناها في معرض مقالنا عن جمال الرونق والرواء بهدف سحبها على واقع العاصمة بغداد وحتى مراكز المحافظات والمدن التي غصت بلوحات الاعلانات الانتخابية للمرشحين بصورة مبالغ فيها والتي تعكس غياب الذوق العام والشبهة في مصادر تمويل الحملات الانتخابية اضافة لتخريب جمال الرونق والرواء وتخريب المنظر الحسن للجمهور ، حيث انتشرت هذه الاعلانات على البنايات والمحلات والجزرات الوسطية والجسور، وجسور عبور المشاة ، والطرق السريعة والسيطرات الحكومية، والحدائق العامة ، والشوارع والازقة الداخلية ، كذلك فأن هذه الفوضى الانتخابية تعكس مدى الاخفاق التشريعي لنظام الحملات الانتخابية رقم (4) لسنة 2025 الذي عرف بالمادة (1/سادساً) منها الحملة الانتخابية بانها مجموعة من الوسائل والانشطة المشروعة والمستخدمة من قبل المرشحين والاحزاب والتحالفات السياسية لكسب ثقة الناخبين لغرض التصويت لهم ، دون ان يحدد النظام ماهية هذه الوسائل وهنا يحق لنا القول الاتشكل طريقة الاعلان الانتخابي واماكن تعليقها مخالفة للقوانين النافذة ، واذا لم تكن كذلك الا تشكل انتهاكاً صارخاً لجمال المدن ورونقها واخلالا ً بالذوق العام وحسن المنظر وحجب المعالم الجمالية في الساحات والحدائق العامة ، ناهيك عن اخلالها بقواعد السير والمرور لانها تحجب الرؤية والاشارات المرورية .
لذا ندعو المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بضرور التدخل والمعالجة التشريعية في نظام الحملات الانتخابية والاخذ بنظر الاعتبار عنصر النظام العام الجمالي في تنظيم الحملات الاعلانية ، فممارسة الحقوق السياسية كالانتخاب والترشيح لا يتطلب بالضرورة خدش القيم والمعالم الجمالية للمدن والحواضر ، كما ندعو ادارات البلديات العامة المسؤولة عن نظافة وجمالية المدن ان يكون لها موقف اتجاه هذا الخرق المادي والمعنوي لروح المدن وجماليتها ، كما ندعو القضاء الاداري في العراق الى تكريس عنصر النظام العام الجمالي كعنصر مستقل يسمح للادارة بالتدخل لازالة كل ما يخل بنطاق هذا العنصر في المدن والاماكن العامة من خلال تطبيقاته القضائية ...والله الموفق .