البيضة والدجاجة
محمد زكي احمد
لم ينته حتى الآن الجدل الدائر حول البيضة والدجاجة، ومن منهما التي جاءت أولاً، وأيهما صاحبة الفضل على الثانية، وإن كانت جذوة هذا الجدل قد خمدت الآن، وخف الحديث عنها، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن القضية غير قابلة للحل، وأنها واحدة من أعقد المسائل في التاريخ.
والواقع أن ثمة أموراً كثيرة أخرى تدخل ضمن هذا التصنيف، ماتزال تشغل بال المجتمع، ولم ينته النزاع بشأنها حتى هذه اللحظة، فالعقل البشري يمتلك القدرة على تأجيل الحل لأكثر المشاكل حيوية، وأشدها خطراً، ويطيل النظر فيها، ويضع احتمالات كثيرة لها، لأنها لا تخضع لقوانين العلم المعروفة.
ولعل من أهم هذه المعضلات في بلادنا تلك التي تتعلق بموضوع النهضة، وكيف تبدأ، لأن البت في أمور كهذه يخضع غالباً للخبرة والحدس والتجربة، وقد يكتشف أصحاب القرار أنهم أخطأوا التشخيص، وانصرفت أذهانهم إلى جهة أخرى، تحتمل الخلاف والأخذ والرد، إلى ما لا نهاية.
وقد بقيت مسألة التغيير الاجتماعي في العراق محل حوار طويل، لم يحسم حتى هذه الساعة، وسبب ذلك دون ريب، ميل الناس للحلول السهلة التي لا تستلزم جهداً، ولا تتطلب مشقة، ولا تقتضي عناءً، ولم ينته الخلاف حول من يجب أن يعطى الأولوية، ويقدم على سواه، حتى الآن.
والجانب الأكبر من الجمهور يعتقد أن السياسيين هم من يصنع التنمية، ويرى أن اختيار قادة أكفاء سينهي كل أشكال الفقر والبطالة والفوضى والفساد والتفكك، وغير ذلك من مظاهر التخلف، ويضرب على ذلك أمثلة كثيرة حدثت في دول العالم الأخرى مثل الصين وكوريا وسنغافورة وماليزيا، كان الفضل في تطورها السريع للقرار السياسي، والزعماء الذين تحملوا المسئولية في لحظات فاصلة من التأريخ، ولولاهم لبقيت شعوبهم تحت الهيمنة الغربية حتى هذه اللحظة.
لكن آخرين يعتقدون أن التنمية هي التي أحدثت كل هذا التغيير، وكانت وراء التقدم الذي أحرزته هذه الشعوب، فهي التي قضت على مظاهر القبلية والطائفية، وهي التي طورت أساليب الإدارة، وهي التي قضت على الفساد، وهي التي جاءت بنظام سياسي يحفظ مصالح الناس وخلقت زعماء كباراً يتحدثون باسمها في المحافل الدولية، ويحظون بالإعجاب والتقدير.
لاشك أن الجدل بشأن هذه القضية في العراق يميل لصالح الفكرة الأولى، لأنها لا تحتاج إلا لرفع الصوت، أو الاحتجاج، أو التظاهر، أو السب والشتم في أحسن الأحوال، ولا تتطلب من الأفراد بذل الجهد، أو تحمل المشقة، أو المجازفة وغير ذلك، وسبل إيصال الفكرة إلى الآخرين اليوم متيسرة وقائمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذه المواقع كما يعرفها الجميع، مجانية، وسهلة الاستعمال! .
ومن المفارقات أن العراقيين الذين يضعون كل أوراقهم بيد السياسيين، يلعنونهم ليل نهار، ويكيلون لهم التهم صباح مساء، ويمزقون صورهم في مواسم الانتخابات، وهم بنظرهم لصوص، وانتهازيون، وعملاء، وأصحاب مصالح.. وغير ذلك من التهم التي تقود أصحابها إلى السجن في الدنيا، وتذيقه عذاب النار في الآخرة.
وما يتجاهله العراقيون أن وجود أشخاص أثرياء في المجتمع، هو المقدمة الضرورية للتنمية، التي تعمر البلدان وتبني المصانع وتنشئ الشركات، وقد صنعت الدول المتقدمة نهضتها بأيدي رأسماليين كبار، ولم تجرؤ على لعنهم أو المساس بهم، باستثناء مجموعات صغيرة استمرأت ذلك، أطلق عليها في ما بعد اسم اليسار.
وقد يحتاج الأمر إلى وقت طويل لحسم هذا الملف، مثلما يحدث مع ملف الدجاجة والبيضة، الذي لم يغلق حتى الآن، وربما لن يغلق إلى الأبد، وحتى يحين ذلك الوقت فإن فرصاً عظيمة للتقدم، ستكون قد أفلتت منهم إلى غير ما رجعة.