الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رؤية فكرية لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة والتنمية

بواسطة azzaman

رؤية فكرية لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة والتنمية 

محمد عبد الكريم النجم

 

يشهد العراق اليوم مرحلة دقيقة من تاريخه الحديث، تتقاطع فيها التحديات الداخلية مع التحولات الإقليمية والدولية، في ظل حاجةٍ متزايدة إلى إعادة بناء مفهوم الدولة على أسس حضارية حديثة، تستند إلى منظومة قيم عليا تضمن العدالة والمواطنة والكرامة الإنسانية. فالدولة الحضارية ليست شعارًا نظريًا، بل مشروعًا وطنيًا شاملًا يربط بين الإنسان والمؤسسات والهوية، ويضع التنمية المستدامة والكرامة الاجتماعية في قلب معادلة الحكم.

الإنسان العراقي مركز البناء

ينطلق مفهوم الدولة الحضارية من الإيمان بكرامة المواطن العراقي، على اختلاف مكوناته القومية والدينية والمذهبية. فالشعب العراقي، بفسيفسائه الغنية من العرب والكرد والتركمان والآشوريين والمسيحيين والإيزيديين والصابئة وغيرهم، هو الثروة الحقيقية للدولة الحديثة، والضمانة لبقاء وحدتها.

ويقتضي هذا الإيمان تعزيز ثقافة التسامح والتعايش، ونبذ الخطابات الإقصائية والطائفية، التي أضعفت المجتمع وأفرغت الدولة من معناها الأخلاقي. كما يتطلب ترسيخ المسؤولية الوطنية، بحيث تتقدّم مصلحة العراق العليا على كل انتماء فرعي أو خارجي.

التعليم والضمان والتمكين

لا يمكن لأي دولة حضارية أن تنهض من دون تعليم جيد يصنع عقلًا حرًّا ونقديًّا. فالتعليم هو الطريق إلى بناء الإنسان المنتج، القادر على المشاركة الواعية في التنمية والحكم.

ويقترن ذلك بـ الضمان الاجتماعي الذي يوفّر شبكة أمان للفئات الضعيفة، ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن. أما تمكين المواطنين بمختلف فئاتهم، ولا سيما الشباب والنساء، فهو شرط لبناء مجتمع عادل قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية.

الحوكمة والاقتصاد والعدالة

تقوم الدولة الحضارية الحديثة على حوكمة رشيدة تُدار بالكفاءة لا بالمحاصصة، وتخضع للمساءلة والمراقبة، وتضع مكافحة الفساد في صلب مشروعها الإصلاحي.

وفي المقابل، تحتاج إدارة الموارد العراقية، النفطية والمائية والبشرية، إلى رؤية استراتيجية تضمن النمو الاقتصادي العادل والتكامل بين الزراعة والصناعة، بدل البقاء أسرى للاقتصاد الريعي.

إن بناء بنية تحتية حديثة، تعتمد على الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة، ليس ترفًا تنمويًا، بل ضرورة للبقاء في عصر تنافسي متسارع.

السياسة والشراكة الوطنية

السياسة في الدولة الحضارية ليست ميدانًا للصراع، بل أداة لتحقيق الشراكة الوطنية. لذلك فإن إصلاح الأحزاب السياسية، وتحديث عملها الداخلي، يشكّل مدخلًا أساسيًا لترسيخ الاستقرار السياسي وبناء ديمقراطية عراقية قوية تستند إلى الدستور والقانون.

ويبقى الدستور العراقي هو الضامن لوحدة البلاد ومساواة أبنائها، شرط أن يُفعّل بروح المواطنة لا بمنطق التفسير المصلحي الضيق. ومن هنا تبرز الحاجة إلى شراكة سياسية متوازنة بين جميع المكونات، ضمن عقد وطني جديد يستوعب تطلعات الجميع في ظل دولة واحدة.

دور المرجعية والنخب الواعية

تواصل المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف أداء دور محوري في ضبط إيقاع الوعي الوطني والدفاع عن السلم الأهلي، وهي بذلك تشكّل صمّام أمان في مواجهة الانقسام والتطرف.

وفي المقابل، تقع مسؤولية كبرى على النخب الأكاديمية والثقافية والإعلامية في ترسيخ الفكر المدني، وتنظيم مؤتمرات وحوارات وطنية تعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الثقة والاحترام المتبادل.

العلاقات الوطنية والإقليمية

إن بناء الدولة الحضارية في العراق لا ينفصل عن بيئته الإقليمية. فالعلاقة بين العرب والكرد والتركمان والطوائف كافة يجب أن تقوم على التكامل لا التنافس، ضمن وحدة العراق أرضًا وشعبًا.

أما في السياسة الخارجية، فيتطلب الأمر توازنًا دقيقًا بين العمق العربي، والتأثيرين الإيراني والتركي، والانفتاح على أوروبا والولايات المتحدة، بما يخدم مصلحة العراق العليا ويحافظ على استقلال قراره السيادي.

التحديات والفرص

المشروع الوطني العراقي يواجه جملة من التحديات: ضعف الثقة بين المواطن والدولة، الفساد المستشري، التدخلات الخارجية، الأزمات الاقتصادية، وانقسام الهوية. غير أن الفرصة لا تزال قائمة لبناء عراقٍ حضاري جديد، إذا ما التقت إرادة الإصلاح السياسي مع روح المجتمع الحيّ.

فالنهضة العراقية المنشودة لن تتحقق بالقوة وحدها، بل بالعقل والضمير، وبإحياء قيم العدالة والإنصاف التي كانت دومًا جوهر حضارة الرافدين.

 

خاتمة

إن “الدولة الحضارية الحديثة” ليست مجرد خيارٍ إداري أو شعارٍ سياسي، بل هي رؤية للإنسان العراقي في المستقبل: إنسانٌ حرّ، متعلم، آمن، يشارك في بناء وطنه، ويفخر بانتمائه إليه.

وعندما تلتقي منظومة القيم العليا مع الإرادة الوطنية والقيادة الواعية، يمكن للعراق أن يتحول من ساحة صراع إلى مركز استقرار ونمو حضاري في المنطقة والعالم.

 

 باحث في الفكر السياسي والحضاري، ساهم في بناء العمل السياسي المعارض للنظام السابق، وشارك لأكثر من أربعة عقود في مجالات البناء والتنمية المستدامة

 

 


مشاهدات 46
الكاتب محمد عبد الكريم النجم
أضيف 2025/10/22 - 4:00 PM
آخر تحديث 2025/10/23 - 3:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 140 الشهر 15379 الكلي 12155234
الوقت الآن
الخميس 2025/10/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير