هيبة المضايف في زمن التفاخر الرقمي
منتصر صباح الحسناوي
منذ أن وعَينا في مضايف أهلِنا، كان المشهد يتكرّر كلَّما دخلنا ، سكونٌ يسبق الكلمة ومهابةٌ تحيط بالمكان، ونَفَسٌ عميق من الهيّبة يجعلنا نشعر أنّنا أمام فضاءٍ لا يشبه غيره.
المضايّف هي صورةٌ مُكثَّفة عن استدامة التقاليد والكرم والوفاء، إذ يجلس الشيخ بهدوءٍ يعادل صمتَ الجبال، وتُدار الأحاديث بميزانٍ يحفظ للكلِّ حقَّه، كلُّ حركةٍ داخل المضيف لها معنى، وكلُّ كلمةٍ محسوبة كأنّها تُسجَّل في ذاكرة الجماعة، ولهذا حملت المضايّف عبر السنين رمزيّةً أكبر من حجمها المادّي، لأنّها كانت تُختصر بوصفها مكاناً للهيّبة التي لا تُشترى ولا تُفتعل.
هذا الجوّ المهاب الذي ظلّ لصيقاً بالمضيف، يتعرّض اليوم لتشويهٍ غريبٍ على المنصّات الرقميّة، إذ تُعاد صناعة صورة العشيرة وكأنّها مشهدٌ استعراضيّ يُسجَّل في دقيقة، ثم يُعاد بثّه على أنّه الحقيقة، هناك من يظهر وهو يتفاخر بلقبٍ أو منصبٍ أو نسب، فتنتشر مقاطعه بسرعةٍ بين الناس حتى تبدو وكأنّها تأكيدٌ على مكانةٍ راسخة، لكنّ المفارقة أنّ هذه الهالة الرقميّة كثيراً ما لا تمتلك أيَّ سندٍ واقعيّ، تماماً كما يُقال عن الكذبة التي تُردَّد حتى تُصدَّق.
صحيحٌ إنَّ التفاخر جزءٌ من الموروث الاجتماعيّ العشائريّ، لكنّه كان محكوماً بجدران المضايّف ومساحتها الجغرافيّة وحدود اللقاءات المباشرة، يختلط فيها الشعرُ والهوسّات بالبطولات والحكايات التي يعرفها الحضورُ بأسمائهم ووجوههم، لم يكن ذلك التفاخر مادةً موسيقيّةً ومقاطعَ مغالاةٍ، انكسر ذلك الحاجز، وصار بوسع أيِّ شخصٍ أن يصنع صورةً عن نفسه مزوَّدةً بالألقاب والمكانات، يتركها على المنصّة لتصل إلى آلافٍ وربّما ملايين، فتغدو الوهمَ الجديد الذي يُعاد تمثيله في مناسبات الواقع.
في هذه المفارقة يضيع جوهرُ العشيرة نفسها ليكون مادّةً للعرض والمزايدة ليجد الكثيرُ ممّن تعايشوا مع واقع المضيف أنفسَهم أمام مشاهدَ لا تشبه ما عاشوه، مشاهدَ تفتقد السكينةَ التي تحكّمت في المضايّف لعقودٍ طويلة، وتحوِّلها الكاميراتُ إلى ضجيجٍ يخلط الحقيقةَ بالزيف.
الجيلُ الجديد سيكبر وهو يعتقد أنّ المنصب غايةٌ تُنال بتصوير مقطع، وأنّ اللقب بطاقةُ عبورٍ اجتماعيّة، بينما يتناسى الأهميّةَ والقيّم الأصليّة من نخوةٍ ونجدةٍ وتكافلٍ أو تكون عند الهامش.
خطورةُ الظاهرة تمتدُّ إلى تكوين الوعي الجمعيّ، عندما يعيش البعضُ على وهم اللقب المصنوع، يصبح عاجزاً عن مواجهة واقعِه الحقيقيّ، ويزداد الأمر وضوحاً عند رؤية هذا التفاخر يعكس عمقَ الفراغ في جزئيّاتٍ باتت تبحث عن بديلٍ يعوِّض نقصَهم.
هكذا صار اللقبُ العشائريّ في الفضاء الرقميّ أشبهَ بجرعةِ وهمٍ تمنح صاحبَها شعوراً بالقوّة والانتماء.
الأمر لا يخلو من جانبٍ تجاريّ، فيصبح اللقبُ سلعةً، والعشيرةُ علامةً تجاريّة، والمنصبُ مادّةَ تسويقٍ لا تختلف عن أيِّ منتجٍ آخر، هنا يفقد التفاخرُ معناه المتوارث، ويغدو مجرّد وسيلةٍ للشهرة.
ومع ذلك، تبقى للمضايّف الأصيلة كلمتُها، فهي وإن قلَّ ضجيجُها أمام المنصّات إلّا أنّها تحمل الصدقَ الذي لا تقدر عليه الكاميرا، يعرف أهلُها أنّ المكانة تُبنى بالفعل لا باللقب، وأنّ التاريخ يُكتب بالتجربة لا بالمونتاج.
هؤلاء يشبهون الجذورَ التي لا تراها الأعينُ لكنّها تمنح الشجرةَ بقاءها، وهم الذين يحفظون للعشيرة معناها الأصيل كعقدٍ اجتماعيّ يقوم على الوفاء والمسؤوليّة.
ويبقى السؤال مفتوحاً أمامنا جميعا: أيُّ صورةٍ سنورِّث للأجيّال؟
هل نمنحهم مضيفاً يُعلَّق فيه الكلامُ على ميزان الصدق أم شاشةً تنقل نسخةً مصطنعةً من الهويّة؟
الجواب هنا لا يخصّ العشيرة وحدها، وإنما يخصّ المجتمع كلَّه، لأنّ مجتمعاً يتشبّع بالوهم يفقد في النهاية قدرتَه على مواجهة الحقيقة.
وبين مهابةِ المضيف وصخبِ المنصّات، سيبقى معيارُ الأصالة هو ما يثبت قيمتَه عندما يسقط الاستعراض وتبقى الكلمةُ التي قيلت بصدق.