الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المحايثة والتسامي.. مابعد النقد والثقافة لارقى


المحايثة والتسامي.. مابعد النقد والثقافة لارقى

عادل الثامري

 

من النقاشات المنهجية المعاصرة في النقد الأدبي والثقافي  النقد الذي قامت به آنا كورنبلوه Anna Kornbluh، في مقالها "إنه معقّد" It’s Complicated (2021)، لمقاربة ريتا فيلسكي الظاهراتية في التجربة الجمالية، وخصوصًا كتاب ريتا فيلسكي  "المُنجذب: الفن والارتباط"  Hooked: Art and Attachmentباعتباره تخليًا عن إنتاج "المعرفة الأرقىلصالح الوصف السطحي والانفعال العابر. في الوقت الذي تصف فيه كورنبلوه هذا التحوّل بأنه استسلام لـ"التسطيح الأنطولوجي" ولنظرية شبكة الفاعلين التي ترفض التحليل السببي، وتحاجج كورنبلوه بأن النقد قد تراجع عن وظيفته الأساسية المتمثلة في إنتاج "معرفة أرقى" لصالح فهرسة التعقيد لاغير. وفي مقالنا هذا نرى ان مقاربة ريتا فيلسكي هي:

استجابة ضرورية لتعقيدات المشهد الثقافي المعاصر (فيض المحتوى، أزمة التلقّي، انهيار السلطة النقدية التقليدية).

تطوير منهجي يُعيد الاعتبار للتجربة الجمالية المباشرة كموضوع شرعي للنقد، بدلًا من اختزالها إلى مجرد انعكاس لبنى اجتماعية أو سياسية.

مشروع ديمقراطي يُشرك جمهورًا أوسع (الطلبة والقراء غير المتخصصين) في حوار نقدي بعيدًا عن هيمنة النخبة الأكاديمية.

يكمن الاختلاف الجوهري بين الرؤيتين في مفهوم المعرفة النقدية ذاتها:  ترى كورنبلوه أن النقد يجب أن ينتج أطروحات كلية (كاشفة عن "المقاصد الاجتماعية السائدة" على طريقة ريموند ويليامز)، في حين ترى فيلسكي بأن الظواهر الجمالية (التعلّق، التماهي، الانفعال) تُنتج معرفةً خاصةً لا تقلّ أهمية، بل قد تكون أكثر صدقًا في عصر تتكدّس فيه الثقافة بعيدًا عن أيّ "تقدير نقدي" مركزي.

السلطة النقدية

يكمن اهتمام كورنبلوه الرئيسي فيما تعتبره تخلّي النقد عن دوره التقليدي: "مهمة النقد هي إحداث تغيير في نطاق التجربة، وتحويل المسارات إلى نظام معرفي مختلف" (كورنبلوه). تكشف هذه الصياغة عن افتراض أساسي عن السلطة النقدية يتحدّاه عمل فيلسكي بشكل مثمر. عندما تدعو كورنبلوه النقاد إلى "التأثير"، فإنها ضمنيًا تؤيد نموذجًا نقديًا يُعطي الأولوية للتأويل الخبير على حساب تنوع التجربة الجمالية الفعلية. إن التزام فيلسكي بدراسة "الارتباطات بالأعمال الفنية" "باعتبارها لذاتها وليس لكونها آثارًا لواقع أكثر اساسية" لا يمثل تخليًا فكريًا، بل خطوة ديمقراطية تأخذ على محمل الجد كيفية ظهور المعنى الجمالي فعليًا (فيلسكي، المنجذب، 24).

يشير التقليد الظاهراتي الذي تستقي منه فيلسكي - ولا سيما تركيز موريس ميرلوبونتي على الإدراك المتجسد - إلى أن صنع المعنى دائمًا ما يكون تعاونيًا وسياقيًا، وليس مفروضًا من الأعلى. إن اهتمام فيلسكي بـ"طبيعة الظواهر غير القابلة للاختزال" لا يُضعف التحليل، بل يُقرّ بالعنف الكامن في اختزال التجربة الجمالية إلى أطر نظرية محددة مسبقًا (فيلسكي، المنجذب، 21). وبينما ترى كورنبلوه هذا الأمر "تراجعًا عن الوساطة الحجاجية"، فإن قراءة أكثر تسامحًا تُقرّ به باعتباره تطورًا منهجيًا يرفض حجب انفتاح اللقاء الجمالي.

التطور المنهجي وأخلاقيات التأويل

إن وصف كورنبلوه لعمل فيلسكي بأنه مجرد "سرد" يُشوّه جوهريًا التطور النظري للمنهج الظاهراتي. فعندما تصف فيلسكي حجتها بأنها "مُبالغ فيها من خلال التركيز على الأمثلة"، فإنها لا تتخلى عن التفكير المنهجي، بل تُوظّف ما تُعرّفه صراحةً بأنه "أسلوب تفكير" نظرية شبكة الفاعلين، وهو "أسلوب جمع لا طرح" (فيلسكي، المنجذب، 2، 6). يعكس هذا الاختيار المنهجي استجابةً مدروسة لقيود التوليف النقدي التقليدي، الذي غالبًا ما يحقق التماسك من خلال الاستبعاد او الاقصاء.

ويتضح البعد الأخلاقي لهذا الاختيار المنهجي حين نتأمل ما يضيع في أسلوب كورنبلوه المُفضّل في "التأثير" النقدي. عندما تدعو كورنبلوه النقاد إلى تحديد "النزعات السائدة" و"المقاصد الاجتماعية" على غرارما يطالب به ريموند ويليامز، فإنها تفترض أن التجربة الجمالية يمكن استيعابها بدقة عبر التحليل الطبقي ، حيث تنقل كورنبلوه عن ويليامزقوله:

"وإن كان صحيحاً أن أي مجتمع يشكل كل مركب من هذه الممارسات، فإنه من الصحيح أيضًا أن لكل مجتمع تنظيماً محددا وبنية محددة، وأن مبادئ هذا التنظيم والبنية تتصل اتصالاً مباشراً بمقاصد اجتماعية معينة، وهي المقاصد التي نُعرِّف بها المجتمع، والتي كانت في كل تجربتنا هي القاعدة لطبقة معينة."

لكن هذه المقاربة تُخاطر بتقليص التنوع الحقيقي للاستجابة الجمالية لفئات سياسية محددة مسبقًا. إن التزام فيلسكي بـ"التعقيد والتنوع" ليس ارتباكًا فكريًا، بل صدقًا فكريًا عن كيفية اشتغال الفن فعليًا عبر سياقات ومجتمعات مختلفة (فيلسكي، المنجذب، 61).

الظروف الثقافية المعاصرة

بدلاً من "تبرير الهدم"، كما تقترح كورنبلوه، تستجيب مقاربة فيلسكي بواقعية للظروف الإعلامية المعاصرة التي فشل النقد التقليدي في التعامل معها. تُقر كورنبلوه نفسها بأننا "نعيش وسط كميات هائلة من المنتجات الثقافية على منصات البث اللامحدودة ورفوف المستودعات والمتاحف التفاعلية المؤقتة، في منأى تمامًا عن التقديرالنقدي". ومع ذلك، بدلاً من إدراك كيف يمكن لهذا السياق ان يتطلب أساليب نقدية جديدة، تتعامل كورنبلوه معها على انها مشكلة يجب التغلب عليها بواسطة تدخل نقدي أكثر حزمًا.

على النقيض من ذلك،تُقدم مقاربة فيلسكي أدوات للتفاعل البنّاء مع الانتشار الثقافي دون ادعاء السيطرة عليه. إن اهتمامها بكيفية مواجهة الناس للأشياء الثقافية وتفاعلهم معها في بيئات متشابكة وتشاركية يُقر بتغير ظروف الإنتاج الثقافي وتلقيه. إن 'السطوح النابضة' التي تستبعدها كورنبلوه قد تمثل في الواقع استجابة أكثر ملاءمة للبيئة الثقافية المعاصرة من النماذج التقليدية للسلطة النقدية.

البُعد التعليمي

تتضح الآثار العملية لهذه الاختلافات المنهجية بشكل خاص في السياقات التعليمية. تحتفي كورنبلوه بـ"الصف الدراسي باعتباره المجال الأساسي للنقد الجمالي" لكنها تفشل في النظر إلى كيفية عمل نمطها المفضل من التلفيق النقدي فعلياً في البيئات التعليمية المتنوعة. كثيراً ما يجد الطلبة  أن مناقشات الارتباط والتجربة الجمالية أكثر سهولة من الأطر النظرية المجردة، ليس لأنهم يفتقرون إلى القدرة الفكرية، بل لأن هذه المناقشات تتصل بشكل أكثر مباشرة بتجربتهم المعيشة للثقافة.

تمكّن مقاربة فيلسكي ما يمكن أن يسمى التعليم  الديمقراطي الاصيل – ذلك الذي يصدق على مواجهات الطلبة الفعلية مع الاشياء الثقافية والذي يوفر أدوات متطورة للتفكير. وفي الوقت الذي ينطوي نموذج كورنبلوه على مخاطرة إعادة إنتاج العلاقات الهرمية بين النقاد الخبراء والطلبة غير المطلعين، فإن مقاربة فيلسكي تخلق مساحة للاستكشاف التعاوني للمعنى الجمالي.

النقد المؤسسي بوسائل مختلفة

ترى كورنبلوه بأن النقد المعاصر قد تخلى عن الانخراط في المسائل المؤسسية، إلا أن هذا يتجاهل كيفية اشتغال عمل فيلسكي بوصفه نقدا مؤسسيا بوسائل مختلفة. وعبرالتشكيك في المعتقدات المنهجية للنقد الأكاديمي - وخاصة ما تُعرّفه بـ"روح الانفصال والشك" في كتابها "حدود النقد" - تتحدى فيلسكي الوصاية المؤسسية او ما تسمى حراسة البوابة المؤسسية التي جعلت الدراسات الأدبية تزداد عزلة عن الجمهور الأوسع.

علاوة على ذلك، يكشف نقد فيلسكي لممارسات القراءة "الارتيابية" كيف أن الأساليب النقدية التقليدية غالبًا ما تُعيد إنتاج بنى السلطة ذاتها التي تدّعي تحديها. عندما تدعو كورنبلوه النقاد إلى تحديد "المقاصد الاجتماعية" و"الاتجاهات السائدة"، فإنها تفترض أن التأويل النقدي يمكن أن يكون خارج علاقات السلطة التي يُحللها. تقدم مقاربة فيلسكي الظاهراتية، وعن طريق الاعتراف بتورط الناقد نفسه في شبكات الارتباط الجمالي، موقفًا أكثرَ تَأمُّلًا ونقديةً.

ثراء المحايثة

يستند رفض كورنبلوه للمحايثة باعتبارها غير كافية إلى تعارض زائف بين الوصف والتحليل. يكشف اهتمام فيلسكي بالتجربة الجمالية عن تعقيد أصيل غالبًا ما يطمسه النقد المتعالي (الترانسندنتالي). إن "الفوضى" التي تحتفي بها فيلسكي ليست ارتباكًا فكريًا، بل إدراكًا بأن المعنى الجمالي يتجاوز الأطر والمقولات التي نحاول من خلالها استيعابه.

وهذا لا يعني التخلي عن الصرامة النقدية، بل تطوير أشكال من الصرامة تتلائم مع التعقيد الفعلي للتجربة الجمالية. عندما تتتبع فيلسكي "اللاّمُتناهي" من الروابط والفاعلين في الشبكات الجمالية، فإنها لا تتجنب التحليل، بل تمارس شكلاً من أشكال التحليل يحترم التعددية غير القابلة للاختزال في المواجهة الجمالية. أما البديل – أي فرض أُطُر اصطناعية تحقق تماسكًا عبر الاستبعاد – فقد يبدو أكثر إرضاءً من الناحية الفكرية، لكنه في النهاية يشوّه الظواهر التي يدّعي إضاءتها.

خاتمة

يتضح مما سبق أن الجدل الأساسي يتمحور حول طبيعة العلاقة بين المنهج النقدي والتجربة الجمالية. رغم أن دعوة كورنبلوه للمعرفة الأرقى والأطر التركيبية تبدو جذابة، خاصة في ظل هشاشة موقع النقد الإنساني في المؤسسات الأكاديمية، فإن مقاربة فيلسكي تقدم بديلاً أكثر تطوراً وحساسية أخلاقية. لا تتخلى مقاربة فيلسكي عن الصرامة الفكرية، بل تطور أدوات نقدية ملائمة للسياق الثقافي المعاصر. تحافظ هذه المقاربة على احترام التعقيد الجوهري في اللقاء الجمالي دون محاولة اختزاله. المسألة الجوهرية ليست ما إذا كان النقد يجب أن يتعامل مع القضايا السياسية والمؤسسية - فكلا المنهجين يفعل ذلك بطرق مختلفة. السؤال الحقيقي هو: هل ينبغي للمنهج النقدي أن يفرض أطراً تأويلية جاهزة على التجربة الجمالية، أم أن يطور أدوات تتناسب مع تعقيدها الفعلي؟  تشير الأدلة إلى أن مقاربة فيلسكي تفتح إمكانيات واعدة لممارسة نقدية أكثر ديمقراطية وصدقاً فكرياً مما تتيحه المناهج التقليدية. هذا ما يجعلها الخيار الأنسب لمواجهة تحديات النقد المعاصر.

 


مشاهدات 501
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/09/23 - 3:44 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 6:40 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 170 الشهر 19407 الكلي 12037280
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير