الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
النقد المتمرّد السردي غير المألوف.. اقتحام دوّامة التيه وكشف الوجع الكوني في شعر منتهى صالح السيفي 


النقد المتمرّد السردي غير المألوف.. اقتحام دوّامة التيه وكشف الوجع الكوني في شعر منتهى صالح السيفي 

 

عبدالكريم الحلو 

 

 

مقدمة :

-----------

لان دراستي النقدية غير مألوفة  وسردية بإمتياز لذلك سأقرأه بمرايا السحرة:

* منذ أزمنة بعيدة ارتبطت مرايا السحرة بالقدرة على كشف المستور، إذ لم تكن تعكس الوجوه فقط، بل تفضح الخفايا وتكشف الجناة مهما تلثّموا بالأقنعة.

* فالمرايا السحرية لا تكتفي بما هو ظاهر للعين، بل تخترق الحجب لتُظهر ما يُخفى في العتمة: الحقيقة العارية بلا رتوش.

* وهكذا جاءت قراءتنا لهذا النص الشعري عبر خمس مرايا سحرية، كل مرآة منها تلتقط بعدًا مختلفًا، لتضع بين أيدينا صورة شاملة لا يملك المراوغ أن يفلت منها.

* النقد حين يُعاد تدويره على الطريقة المدرسية يصبح ترفًا بارداً لا يُنجب حياة.

* أما حين ينقضّ على النص كإعصار، وينفض عنه الغبار، ويقتلع الأقنعة من وجوه الكلمات، فإنه يتحوّل إلى فعل ثوري يوازي الكتابة ذاتها.

* نحن لا نقرأ النص كي نصفه كما هو، بل نقرأه لنمزّقه ونخيطه من جديد بخيوط أخرى، نكشف ما يختبئ خلف البلاغة، ونستخرج ما تُخفيه المسافات البيضاء بين السطور.

* إن نص «دوّامة التيه» للشاعرة منتهى صالح السيفي ليس حكاية غربة عابرة، بل صرخة وجودية تتحدى العدم.

* وفي مواجهته لا يصلح النقد التقليدي الذي يكتفي بالشرح والتبويب.

* هذا نص يفرض علينا أن نغوص في طواحين التيه معه، أن نُصاب برذاذ الغبار، وأن نسمع صوت الأسئلة وهي تتفتت على صخور الوجع.

* هنا يبدأ النقد لا كأداة شرح، بل كفعل مقاومة، كتمرّد يرفض أن يظل تابعًا للنص، بل يوازيه في الجرأة، ويخلخل معه بنية العالم. نحن لا نقارب «دوّامة التيه» لنصفها،

* بل لنخترقها، ولنعيد صياغة سؤال الغربة لا كمنفى جغرافي، بل كقدر كوني يلتهمنا جميعًا

* في نصها “دوّامة التيه”، تُلقي الشاعرة منتهى صالح السيفي بظلالٍ كثيفة على التجربة الإنسانية في الغربة، لتصوغها ببلاغة مشهدية تتجاوز البعد الشخصي إلى بُعد كوني.

* إنّها لا تكتب عن اغترابها وحدها، بل عن اغتراب جيل كامل، وربما عن اغتراب الإنسانية في زمن التشتت الروحي وفقدان اليقين.

* النص يبدأ من الضباب والركام، وهما صورتان تترجمان انسداد الأفق وغياب الرؤية.

* ليس ضبابًا طبيعيًا، بل هو ركام يتراكم في الوجدان، كأنه حطام تاريخي وثقافي يثقل القلب.

1-  المرايا الاولى الظاهرية:

------------------------

* النص يتوسل صورًا مباشرة وحسية لرسم لوحة الغربة:

• الضباب والركام والغبار:

استعارات مكانية/زمانية تعكس انسداد الأفق النفسي والاجتماعي.

• الطيور المهاجرة:

صورة جلية للإنسان المغترب الذي يطير بحثًا عن ملاذ، لكنه لا يجد سوى المنافي الباردة.

• الطواحين والرياح:

رمز للقوى الخارجية التي تسحق الذات وتذرها هباءً.

• حضور الأسئلة :

 (“متى ينقشع الضباب؟”

 “هل حبنا خداع؟”) يكشف قلقًا وجوديًا وانعدام اليقين.

بهذا المستوى، النص يعبّر عن تجربة الغربة بمرارتها اليومية:

التشرد، فقدان الدفء، ضياع الأمان، وتشتت الأوطان.

2- المرايا الثانية الفلسفية:

------------------------

* الغربة هنا ليست جغرافية فقط، بل ميتافيزيقيا للتيه:

* البراءة الإنسانية تصطدم بواقع قاسٍ فتغدو العاطفة سرابًا والحب خداعًا، ما يحيل الغربة إلى سؤال عن جوهر الوجود نفسه.

* الحقد في الجسد العقيم” هو صورة فلسفية للخراب الداخلي الذي يفرغ الكائن من خصوبته الإنسانية، ويجعله مسرحًا للعدم.

* النص يشتغل على ثنائية :

*  الحضور/الغياب،

* الألفة/النفي،

* الحب/الخيانة،

* فيكشف مأزق الإنسان المعاصر الذي تبتلعه “الطواحين” كرمز ميكانيكي/رأسمالي يلتهم الروح.

* السؤال المفتوح في الخاتمة بلا جواب، يرسّخ أن الغربة قدر أنطولوجي أكثر من كونها مجرد حالة ظرفية.

المرايا الثالثة :

هذا التضاد ليس بريئًا :

--------------------

إنه يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في الطمأنينة والواقع القاسي للاغتراب. وبذلك يتولد النص من توتر دائم بين الحلم والخذلان.

الصور البلاغية والرمزية

• الطيور المهاجرة:

استعارة وجودية عن الإنسان الذي فقد جذوره.

• النخلة:

رمز الوطن/الأم/المأوى، إذ هي قادرة على “انتشال الوجع”.

• الطواحين:

استعارة لقوى القمع الميكانيكية، وقد تستدعي في اللاوعي صورة دون كيشوت وصراعه العبثي.

• الصفيح:

صورة بصرية توحي بالبرد والقسوة والافتقار إلى الغطاء الإنساني.

• الغربان: ترمز إلى الموت والخراب ودفن الفضائح، وهنا تستدعى صورة أسطورية توراتية/قرآنية (“فبعث الله غرابًا…”).

* هذه الصور ليست زينة شعرية، بل هي بنية رمزية تصوغ فلسفة النص: العالم مكان معادٍ، والإنسان يبحث عن دفء مفقود في غابة رمادية.

المرايا الرابعة :

--------------

الأسئلة الميتافيزيقية والصرخة الوجودية (“من ذا يواري…؟”).

* بهذا، يبني النص قوسًا دراميًا يبدأ من المشهد الحسي وينتهي بالصرخة الفلسفية، مما يجعله أقرب إلى مونولوج شعري داخلي.

* الأسلوب بين المباشرة والرمزية :

    - في مواضع كثيرة، تميل الشاعرة إلى المباشرة (كفانا بعاد وتنافر ونفاق).

    - وفي مواضع أخرى، تلجأ إلى الرمزية العميقة (الحقد في الجسد العقيم).

- هذا التنويع في الأسلوب يجعل النص مفتوحًا للقراء العاديين والقراء الفلسفيين معًا، فيجمع بين حرارة الوجدان وعمق الفكرة.

هنا يُطرح السؤال الأول:

---------------------

متى ينقشع؟

* سؤال ينهض على حافة اليأس، لكنه يحمل في طياته توقًا إلى الوضوح والنقاء.

* الغربة عند السيفي ليست مجرّد بعدٍ مكاني عن الوطن؛ بل هي انفصال وجودي عن معنى الحياة.

* في تصويرها للمغتربين كطيور مهاجرة تبحث عن “حبّات الحب” أو “ظل نخلة”، تلتقط الشاعرة صورة رمزية دقيقة:

* الإنسان المغترب لا يبحث عن رفاهٍ ولا عن سلطة، بل عن أبسط مقومات الدفء والحنان.

* النخلة هنا ليست شجرة فحسب،

* بل هي : الوطن/الأم/المأوى الذي يخلّص الكائن من لهيب الاغتراب.

في القسم الأوسط من النص :

* تتكثّف المأساة. تقول:

* “ ها نحن عراةٌ تسحقنا الطواحين ويذرونا الرياح…”.

* هذه الجملة تحيل مباشرة إلى أسطورة سيزيف ومجاز الطواحين الدونكيشوتية،

* لكنها عند السيفي تتحول إلى آلية قمع كونية: مغتربون بلا غطاء، عراة أمام مصيرهم، يُسحقون ثم يُذرَون كما لو كانوا قشًّا بلا جذور.

* هنا تتعرّى الغربة من أي بعد رومانسي، لتصير واقعًا ميكانيكيًا لا يرحم.

المرايا الخامسة :

الأسئلة التي تطرحها الشاعرة لاحقًا :

-------------------------------

هل حبنا خداع؟

هل ودّنا سراب؟

* ليست أسئلة في الحب فحسب، بل هي تساؤلات أنطولوجية عن حقيقة العلاقة الإنسانية في زمن الاغتراب.

* حين يصبح الأدب نفسه “سرابًا” وحين يغدو “الحضور كالغياب”، فنحن إزاء انهيار شامل لقيم التواصل والمعنى.

* بهذا، يتحول النص إلى شهادة وجودية ضد عصر يبيع البشر كما تُباع “السبايا”.

* في البنية الرمزية، نلحظ أنّ النص يتحرك ضمن ثلاث دوائر:

1. التيه المكاني:

الغربة والمنفى.

2. التيه الروحي:

فقدان الحب والتضامن الإنساني.

3. التيه الفلسفي:

غياب الجواب، وترك الأسئلة معلّقة.

أما خاتمة النص :

----------------

* فهي أشبه بـ”ضربة فلسفية” حين تقول: ياللغرابةِ حينَ ينمو الحقدُ في الجسدِ العقيمْ…”.

* الجسد العقيم هو العالم الذي فقد قدرته على الإنجاب المعنوي، على إنتاج الحب والوداد، فيستحيل رحمًا جافًا يولد حقدًا بدل الحياة.

* وهنا يكتمل مشهد الاغتراب: ليس الخارج وحده الذي يغتربنا، بل الداخل أيضًا صار خرابًا.

 النص الموازي :

--------------

إننا في “دوّامة التيه” لا نقرأ قصيدة فقط، بل ندخل كونًا شعريًا صاخبًا يدوّي فيه صدى المنافي، فتتردد الأسئلة على جدران الغربة كأنها مطارق:

• متى ينقشع الضباب؟

• متى تعود المحبة؟

• متى نخلع الشقاء؟

لكن لا جواب…

* بل يظلّ الإنسان في الغربة عصفورًا مكسور الجناح، يتأرجح بين رحلة الشتاء والصيف، يبحث عن دفءٍ على قارعة الصفيح، ويُسحق في طواحين العدم.

وبين سؤالٍ وسؤال :

* يتكشف لنا أن الغربة ليست مكانًا نغادره، بل جرحًا قديمًا يسكن فينا، و”دوّامة التيه” ليست عنوان نصّ شعري فحسب، بل هي اسمٌ للوجود الإنساني في زمنٍ فقد بوصلته.

بهذا :

* يتحول نص منتهى السيفي إلى شهادة شعرية/فلسفية كبرى،

* ونقده يصبح منتجًا موازيًا يعيد بناء عالم النص، ويكشف أن الغربة ليست غياب الوطن فقط، بل غياب المعنى نفسه.

الخلاصة :

-----------

* يمكن القول إن نص “دوّامة التيه” هو قصيدة-شهادة، تجمع بين البعد الوجداني الفردي والبعد الرمزي الكوني.

* لغته تتحرك بين المباشرة السياسية والاجتماعية وبين الرمزية الفلسفية، وصوره تنسج جدلية بين الدفء المفقود والقسوة الطاغية.

* النص، في بنائه الإيقاعي وتوتره الدلالي، يرسّخ تجربة شعرية تنتمي إلى أدب المنفى والاغتراب،

* لكنه يتجاوز الشكوى الفردية ليقدّم رؤية أنطولوجية للإنسان الممزق في زمن التيه، حيث الحبّ سراب، والوداد منفى، والوطن سؤال بلا جواب.

* نص منتهى السيفي ليس مجرد بوح وجداني عن الغربة،

* بل هو ملحمة شعرية صغيرة تعيد صياغة الاغتراب كـ”راما” وجودية كبرى. إنه نص يصرخ بوجع الإنسان الممزق

*  بين وطن ضائع وغربة قاتلة، ليكشف أن الحقيقة في النهاية “سؤال بلا جواب”.

الخاتمة :

--------

* إن نص «دوّامة التيه» ليس مجرد قصيدة في الغربة،

* بل هو ملحمة شعرية صغيرة تصوغ تجربة الاغتراب كقدر أنطولوجي، وتجعل من الأسئلة المعلقة شهادةً على زمن مأزوم.

* فالغربة هنا ليست غياب الوطن فقط، بل غياب المعنى نفسه.

* وبهذا يتحول النص إلى منتج شعري-فلسفي، وتغدو قراءته النقدية منتجًا موازيًا، يعيد بناء عالمه الرمزي والإيقاعي، ليؤكد أن “دوّامة التيه” عنوان للقصيدة، لكنه في العمق عنوان للوجود الإنساني في زمن الشتات.

* في نهاية «دوّامة التيه» نجد أنفسنا، كقرّاء وناقدين، داخل مرايا متعددة؛

* كل مرآة تعكس وجهاً آخر من الغربة،

* وكل صورة تُعيدنا إلى السؤال الأول:

* من نحن في هذا الزمن الممزق؟

* النص لا يمنح جوابًا،

* لكنه يترك فينا أثر السؤال، والقلق، والبحث عن دفءٍ مفقود كحلم نخلة على حافة صحراء.

* لقد استطاعت الشاعرة منتهى صالح السيفي أن تحوّل غربتها إلى كونٍ شعري، وأن تزرع في فراغ المنافي بذور معنى، حتى لو كان هذا المعنى سؤالاً بلا نهاية.

* وهنا تكمن قوة النص:

* أنه لا ينغلق على ذاته،

* بل يظل يدور مثل مجرة صغيرة، تستمد طاقتها من حنين لا ينطفئ.

* ولعل أجمل ما يتركه النص في وجداننا، أنه يذكّرنا بأن الإنسان، مهما طحنتْه الغربة ومهما ذرّته الرياح، يبقى يبحث عن ظل نخلة، عن بيت صغير في المعنى، عن وطن يسكنه ولو في الحروف.

* إن «دوّامة التيه» ليست قصيدة وحسب،

* بل هي قدرنا المشترك حين نصحو لنكتشف أن الغربة لم تعد مكانًا،

* بل صارت لغة وجود بأكمله.

                الدكتور  عبدالكريم الحلو

            ***************************

القصيدة :

دوّامة التِــيــــــــه..

.............

متى ينقشع الضباب..

وركام الغبــار العالق في الوجدان...؟

متى تسود المحبة

بين القلوب

 بالسلام...؟

لنعيش

بأمانٍ ووئام..؟

بلا خوف ولا تشتت ولا تفرّق

 كفانا بعاد وتنافر ونفاقْ..

ها نحن في  بلاد الغربة..

كالطيور المهاجرة..

نبحث عن حبّات الحب،

عن ظل نخلة تنتشل وجعنا وقت الهجيرة

بالحنان...

 هانحن عراةٌ تسحقنا الطواحين ويذرونا الرياح...

بين رحلة الشتاء والصيف..

لاشيء يغطينا..

يمنحنا الدفئ على قارعة الصفيح...

هل حبنا خــــــداع؟ وودنا لبعضنا سراب؟

 نباع كالعبيد..

كالسبايا،

أدباء وشعراء،

حروفنا سراب.. والحضور كالغياب..

ربنا متى يعود شملنا

لحضرة الوداد..

نعود للبلاد..

ونخلع الشقاء

سؤال و سؤال

فهل...

ولاجواب...

ياللغرابةِ حينَ ينمو

الحقدُ في الجسدِ

العقيــــــــــــمْ...!

من ذا يواري سوأةَ

الغربانِ...

في جرحي القديـــــم؟

منتهى صالح السيفي


مشاهدات 26
الكاتب عبدالكريم الحلو 
أضيف 2025/09/17 - 3:06 PM
آخر تحديث 2025/09/18 - 1:25 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 49 الشهر 12361 الكلي 12030234
الوقت الآن
الخميس 2025/9/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير