الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
 الأمر والالزام في النقد : ايف سيدغويك و فريدريك جيمسون


 الأمر والالزام في النقد : ايف سيدغويك و فريدريك جيمسون

عادل الثامري

 

مقدمة

قلة من الشعارات في النقد الأدبي لأواخر القرن العشرين  قد حظيت بالانتشار الذي حظي به أمر فريدريك جيمسون " أَرْخِن دائمًا!". حين ظهر هذا القول لأول مرة في كتاب "اللاوعي السياسي" (1981)، كان بمثابة تجسيد لنسق كامل من الممارسة النقدية: نسق يصر على أن كل منتج ثقافي يجب أن يُفهم في سياق ظروف إنتاجه التاريخية وانغراسه بالأيديولوجيا. كانت الأَرْخَنَة، بالنسبة لجيمسون وأتباعه، منهجا وضرورة سياسية ووسيلة لضمان بقاء النقد الأدبي متوائمًا مع الوقائع المادية والاجتماعية.

لكن في كتابها "تحديق الرواية: قراءات كويرية في القص" (1997)، قدّمت إيف كوسوفسكي سيدغويك تفسيرًا بارعًا ومزعزعًا لهذا الشعار. تساءلت: " أَرْخِن دائمًا؟ ما الذي يمكن أن يكون أبعد عن ' الأَرْخَنَة ' غير الظرف الآمر واللازمني 'دائمًا' ؟" السخرية لاذعة، لكنها تحمل في طياتها حجة جادة. تشير سيدغويك إلى أن صيغة الأمر والالزام  عند جيمسون تقوض مضمونه: فاستخدام لغة 'دائمًا' التعميمية تفرض طابعًا لا زمنيًا يتعارض مع ' الأَرْخَنَة ' التي يأمر بها.

تستكشف هذه المقالة نقد سيدغويك لمقولة جيمسون والمحصلات الأوسع التي تثيرها بالنسبة للنظرية الأدبية. من خلال تفحص مفارقة صيغة الامر وطقوسية الشك والبدائل التي تقترحها سيدغويك، يمكننا أن نرى كيف تمهّد هذه الملاحظة الطريق لتحول من هيمنة "التاريخانية" الماركسية نحو أنماط قراءة أكثر تنوعًا وتصالحية وترميمية ترتبط بما بعد النقد.

 سياسات الأَرْخَنَة 

لفهم استفزاز سيدغويك، ينبغي أولاً تحديد السياق الفكري لشعار جيمسون. جاء كتاب "اللاوعي السياسي" في لحظة تاريخية كانت فيها النظرية ما بعد البنيوية والنقد الماركسي يتنافسان على الهيمنة في الحقل النقدي. كان مشروع جيمسون يهدف إلى توحيد ممارسة التأويل الأدبي تحت لواء التاريخ ولخّص الأمر "أَرْخِن دائمًا!" حجته المركزية: كل النصوص تمثل أفعالاً رمزية اجتماعية، حتى لو لم تكن سياسية بوعي.  وفقاً لتصوره، ينطوي الأدب على تشفير الصراعات الأيديولوجية وعكسها، ومن ثم يجب على التأويل أن يعيد اكتشاف القوى التاريخية الكامنة تحت السطح الشكلي. لقد مثّل الشعار اختزالاً للمنهج والروح معاً: الفشل في الأَرْخَنَة كان يعنيخطر الوقوع في العمى الأيديولوجي

كما أشار نقاد آخرون، ان قوة أمر جيمسون تكمن في وضوحه. فهو يضفي طابعاً درامياً على تسييق الرهانات الأخلاقية للنقد وابرازها؛ غير ان سيدغويك ، من جانبها ، ترى ان صيغة الأمر نفسها التي تمنح الشعار قوته البلاغية تكشف أيضاً عن تناقض جوهري.

إشكالية "دائمًا" 

يخفي تعليق سيدغويك ظرافةً خادعة. فالفكاهة تدور حول كلمة "دائمًا". تتعلق الأَرْخَنَة بالزمانية والاحتمالية والتحديد. تكمن المفارقة في أن كلمة 'دائمًا'، بشموليتها وطابعها اللازمني، تفرض قاعدةً متعالية على التاريخ، وهي نفسها تتعارض مع المبدأ الأساسي للتأريخ الذي ينادي به الشعار. وهكذا فإن قواعد اللغة ذاتها في مقولة جيمسون تتعارض مع مضمونها المعلَن. فالأَرْخَنَة السليمة تتطلب تأطير الأمر نفسه في لحظته. 

توسع سيدغويك النقد بقياس لايُنسى: ملصق السيارة الذي يحمل عبارة "شكّك في السلطة". المسألة، كما توضح، أن الملصق نفسه يتحدث بصوت سلطوي آمر وملزم؛ ومن ثم فان الطاعة غير الناقدة له تعني الفشل في التشكيك في السلطة من الأساس. وعلى هذا النحو، فإن عبارة "أَرْخِن دائمًا!" ، رغم طموحها التحرري ، تخاطر بأن تتحول من أداةٍ تستفز الفكر إلى أمرٍ سلطوي. وهكذا يصبح ما يَدَّعي تحرير  الفكر قيداً جديداً عليه.

 

 

ان هذا الجدل ليس حذلقة لفظية، وانما يُقدّم حجةً جوهريةً عن مخاطر الصيغة الأمرية في الخطاب النقدي. فالأوامر الشمولية، حتى عندما تكون نواياها تقدمية، تُجازف بتسطيح الفروق الدقيقة، وفرض أنماطٍ فكريةٍ جاهزة، وتحويل الشكّ من ممارسة نقدية منفتحة إلى عقيدةٍ مغلقة.

الشك بوصفه دوغمائية

لا ينحصر موضوع سخرية سيدغويك في جيمسون وحده، بل يمتد ليشمل المزاج النقدي بأسره القائم على الشك والارتياب، والذي هيمن على النظرية في أواخر القرن العشرين. فقد غدت «تأويلية الشك» كما صاغها بول ريكور، الموقف المبدئي للنقاد المتأثرين بماركس وفرويد ونيتشه. فالقراءة الارتيابية تعني التفكيك والكشف وإظهار الوقائع المستترة خلف المظاهر.

غير أنّ هذا الموقف، وقد كان في بداياته راديكاليا، تحوّل بحلول التسعينيات إلى رد فعل مؤسسي آلي: التأويل هو شك، والتحليل هو كشف عن الأيديولوجيا. ووفق صياغة سيدغويك، فقد تحول هذا الموقف الى دوغمائية نقدية، وانتج ما تصفه بـ" نزعة قهرية وحيدة للتكرار" (سيدغويك، 1997). إن تعليقها الطريف على الصيغة الأمرية يبين كيف أنّ الشك، حين يُصاغ كالزام كلي، ينزلق إلى نبرة سلطوية.

وبالفعل، فإن إشارة سيدغويك إلى أنّ «الإطار الأمرِي يفعل أشياء طريفة بتأويلية الشك» تكشف عن المفارقة الكامنة في صلب الدوغمائية النقدية: إذ يفقد الشك حدّته النقدية حين يتحوّل إلى قاعدة غير قابلة للمساءلة. فالشك المنهجي، عندما يتحول إلى موقف وحيد وأولي، يُخاطر بأن يتحول إلى ممارسة تنبؤية ومنغلقة، ما قد يؤدي إلى تهميش واقصاء أشكال أخرى محتملة من التلقي والانخراط النقدي.

الأَرْخَنَة  شعارا

تنطوي خطوة سيدغويك أيضًا على توجيه الشك نحو نفسه. تُعدُّ "الأَرْخَنَة" واحدة من أكثر المفارقات إثارةً في مشروع جيمسون: فالمفكر الذي جعل من التاريخ مطلقًا، لم يُخضع مطلقه هو نفسه للأَرْخَنَة. إذ تتطلب الأَرْخَنة الراديكالية من الناقد أن يطبقها على منهجه نفسه. لو أن جيمسون أخضع صيغة الأمر "أَرْخِن دائمًا!" للأَرْخَنَة، لاضطر إلى التساؤل: لماذا برز هذا النموذج الشكي تحديدًا في ثمانينيات القرن العشرين؟ وأي حاجات أيديولوجية كان يلبيها في سياق صعود الليبرالية الجديدة وأزمة اليسار؟ بكلمات أخرى، لم يُطَبِّق جيمسون على مشروعه النقدي نفس الأَرْخَنَة التي أوصى بتطبيقها على النصوص الأدبية.

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تكشف أن مقولة جيمسون ليست حقيقة أزلية، بل هي استجابة مشروطة تاريخيًا بسياقها الفكري: دفاع عن التاريخية الماركسية في مواجهة التجريد ما بعد البنيوي، ومحاولة لترسيخ سلطة نقدية داخل المؤسسة الأكاديمية. هذا القصور ليس مقتصرا على جيمسون فحسب، بل هو سمة مميزة لعدد من المقاربات النقدية في القرن العشرين التي حوّلت المناهج إلى مسلّمات. فكما تشير سيدغويك، عندما تتحول الأَرْخَنَة إلى طقس إلزامي، تفعل ذلك غالبًا على حساب أبعاد أخرى للنص، مثل البعد الجمالي أو العاطفي أو الأخلاقي. وهكذا يصبح النقد ساحة لتأكيد الشك بدلاً من أن يكون فضاءً لاكتشاف المعنى.

بديل سيدغويك

لا تقتصر دعابة سيدغويك على فعل التفكيك فحسب، بل تلمّح أيضًا إلى أفق بديل في ممارسة القراءة. ففي Novel Gazing، ولاحقًا في Touching Feeling (2003)، بلورت مفهوم القراءة الترميمية (Reparative Reading)، وهي نقيض الشك الارتيابي الذي تجسّده مقولة جيمسون.

فبينما يسعى الشك إلى الكشف والفضح وفضح المستور، تهدف القراءة الترميمية إلى الاستدامة والرعاية والتخييل. إنها لا ترفض الأَرْخَنَة  بالمطلق، بل تعيد وضعها ضمن أحد أنماط القراءة الممكنة، من دون أن تفرضها بوصفها الإلزام الوحيد للنقد. ففي الممارسة الترميمية، يُفسَح المجال للمفاجأة، ولأشكال الارتباط، وللاستثمار الوجداني – وهي عناصر غالبًا ما تُستبعد في مقاربة الشك التي تُصرّ على نزع فض الاسرار وكشف الأدلجة.

وعليه، فإن تعليق سيدغويك على شعار " أَرْخِن دائمًا!" يصبح بمثابة علامة على تحوّل معرفي أوسع: من النقد بوصفه تعرية وكشفا، إلى النقد بوصفه إمكانًا؛ ومن الشك بوصفه دوغمائية، إلى فسيفساء أوسع من استراتيجيات القراءة. إن التهكّم الذي تمارسه سيدغويك على مقولة جيمسون  مهد لما جرى التنظير له لاحقًا بوصفه التحوّل ما بعد-النقدي. فباحثون مثل ريتا فيلسكي  في كتابها حدود النقد( 2015)  وبرونو لاتور في "لماذا فقد النقد زخمه؟" (2004) يرون إن الشك، الذي كان أداة فعّالة في زمنه، يتهدّده خطر التحوّل إلى ممارسة نمطية وجامدة حين يُستَخدم بصورة شمولية وبلا تمييز.

إن دعوة ما بعد-النقد لا ترمي إلى التخلّي عن الارتياب، بل إلى تنويع السجلات الوجدانية والمنهجية للقراءة. وتجسّد مقولة سيدغويك هذا التوجّه: فهي، عبر نقد الإلزام بالأَرْخَنَة ذاته وكشف تناقضاته، تُظهر أن أخلاقيات الارتياب ليست حقيقة أزلية بل وضعًا تاريخيًا مشروطًا. وفي الوقت نفسه، تقدّم نموذجًا لموقف نقدي بديل، ترميمي ، منفتح على المفاجأة، يقاوم أن يُختزَل في صيغة الأمر أو في منطق الإلزام المعياري.

خاتمة
قد يبدو تعليق سيدغويك على مقولة جيمسون في البداية مجرّد نكتة عابرة، لكنه في الحقيقة تدخل فلسفي حادّ الدلالة. فمن خلال ملاحظتها أنّ صيغة "دائمًا" التعميمية تناقض الأَرْخَنَة  التي تزعم المطالبة بها، تكشف المفارقة الملازمة لأي صيغة أمرية في النظرية. وعن طريق تشبيهها المقولة بملصقات السيارات التي ترفع شعار "شكّك في السلطة"، توضّح كيف يمكن للشعارات التحررية أن تنقلب إلى أوامر سلطوية. كما أنّ اقتراحها بضرورة أَرْخَنَة  الشك ذاته يكشف عن الشروط المؤسسية والتخصصية التي حوّلت الشك من أداة نقدية فعّالة إلى دوغمائية.

والأهم من ذلك أن دعابتها تفتح الباب أمام أنماط بديلة للقراءة. فممارستها الترميمية ترفض مبدأ "أَرْخِن دائمًا"  لا عبر إنكار التاريخ، بل عبر إفساح المجال للارتباط والوجدان والإبداع جنبًا إلى جنب مع الشك. وبهذا المعنى، يمثّل نصها مفصلًا انتقالياً بين ماركسية فريدريك جيمسون وبين التعدّدية ما بعد-النقدية التي أعادت تشكيل دراسات الأدب في القرن الواحد والعشرين.

تذكّرنا سيدغويك بأن النظرية، مثل الأدب، لا يمكن أن تزدهر تحت وطأة الأوامر الكلية المجرّدة. فالأَرْخَنَة   تظلّ ممارسة حيوية، لكنهاحين تكون دائمة تنطوي على خطر نسيان أن الزاماتنا النقدية ذاتها هي ليست قوانين أبدية، بل نتاجات تاريخية مشروطة.

المراجع

Jameson, F. )1981(The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act. Cornell University Press.

Sedgwick, E. (1997(Novel Gazing: Queer Readings in Fiction. Duke University Press,

Sedgwick, E. (2003) Touching Feeling: Affect, Pedagogy, Performativity. Duke University Press.


مشاهدات 64
الكاتب الدكتور عادل الثامري
أضيف 2025/11/01 - 5:13 PM
آخر تحديث 2025/11/02 - 4:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 128 الشهر 907 الكلي 12362410
الوقت الآن
الأحد 2025/11/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير