الصبغ الأحمر للفساد الإداري
عبد الله ياسين الجنابي
انتهى مواطن عراقي مسكين من صبغ بيته، وأراد أن يصبغ حياته بإنجاز بسيط في إحدى دوائر الدولة. لكنه سرعان ما اكتشف أن اللون الوحيد المقبول في أغلب الدوائر ليس لون الطلاء، بل اللون الأحمر… نعم، لون الخمسة والعشرين (المعجونية)!
دخل الرجل بثقة، ظنًّا أن المعاملة تُنجز بالاستحقاق لا بمحسوبيات، وبالمستمسكات لا بالصلات، لكنه صُدم! كاتب العرائض استقبلّه بابتسامة عريضة وقال له: "معاملتك يم فلان… ما تخلص إلا بطابع أحمر!"
سأل المواطن بدهشة: "شنو الطابع الأحمر؟"فأجابه الموظف بابتسامة خبثاء: "أبو الخمسة والعشرين المعجونية!"ابتسم المواطن وقال متمنّيًا: "الله يسهل… بلكي ما يأخذ!"
لكن "الروتين" قائم على هذا الطابع الأحمر. المعاملة التي كانت ناقصة فجأة صارت "كاملة الأركان" بعدما أضيف إليها الطابع الأحمر، ووقع عليها الموظف وكأنها معاهدة سلام دولية! غير أن المشهد لم يكتمل… تفحّص الموظف أصابع المواطن المتسخة بالصبغ وقال بنبرة دينية مبالغ فيها: "تدري هذا الصبغ يبطل الوضوء؟"
في بلادنا، الفساد الإداري صار مثل العسل: كلما حاولت تأخذ منه نصيبًا صغيرًا، تلقى نفسك غارقًا بالكامل! والموظف الفاسد، هو الفنان العظيم الذي يجيد فن "الوشاية والابتزاز" أكثر من أي مهارة أخرى مكتسبة، وكأنه يحترف لعبة يصبح فيها "الواسطة" سر النجاح ومفتاح الإنجاز.
الطابع الأحمر ليس مجرد ختم اداري، بل هو ختم الشرف! فلا معاملة تخلص بدون "خاتم العظمة" هذا، الذي يكلف عشرات الآلاف من الدينارات، وما دون ذلك مجرد أوراق مطرية بلا قيمة. فالروتين في دوائرنا مثل الڤيروس: حين تظنه قد مات، يفاجئك ويعود أقوى. أما الموظف الفاسد فهو فنان من الطراز الأول، رسمياً موظف، وبالخفاء مدير تكتل "شلل الخدمة".
يا للمفارقة العجيبة! بقايا صبغ منزل تبطل الوضوء، لكن صبغ المعاملة بالطابع الأحمر لا يبطل الضمير! فالوضوء له شروط صارمة، لكن "الضمير" مرن جدًا، وكل ما يحتاجه خمس وعشرون ألف دينار!
غادر المواطن مبتسمًا، ليس لأنه فرح بالإنجاز، بل لأنه عرف أن الفساد أصبح في دوائرنا عقيدة رسمية، ولونًا معتمدًا لا خطأ فرديًا. درسه الأوحد: إن أردت إنجازًا سريعًا، لا تحتاج وضوءًا، بل تحتاج "طابعًا أحمر".!