المعلومة بين الحقيقة والرفض
منتصر صباح الحسناوي
كنت متابعاً للقاء السيد وزير الموارد المائية في حديثه عن أزمة المياه، استّند الرجل إلى لغةِ الواقع، وأخذ يسردُ ما لديهِ من مُعطيّات عن السدود والخَزين المائيّ، بدا واثقاً وهو يواجه الأسئلة بمنطقٍ علميٍّ وواقعيّ، غير أنّ ما أدلّى به لم يتحول لدى كثيرٍ من الجمهور إلى ما ينبغي أن يكون، كان كمَن يواجهُ الموجةَ بيديّن عاريتيّن. دقائقٌ قليلةٌ تحوّلت بعدها إجابته إلى مادةٍ للنّقد على وسائل التواصل، وانطلقت ضدّه حملةٌ من حملاتِ الإلغاء المعتادة، رغم أنّ المعلومةَ التي طرحها الوزير كانت صحيحة. وفي لقاءٍ آخر كان هناك رجلٌ مهتّمٌ بشؤون المياه يتحدثُ عن الملّف نفسه، قدّم رؤيته بواقعية، واقترح حلولاً عملية، وشرح طرقاً يمكن أن تطّبق محليا.
مفارقة حقيقةُ
بدا حديثه قريباً إلى لغة الناس، ومع ذلك قُوبلَ بنوعٍ من عدم الاقتناع مِمّن كانوا يجلسُون معه، لأنَّ خطابه لم ينسجم مع توجهاتهم، هكذا تنكشف المفارقة: الحقيقةُ حين تخرج جافّةً لا تجد صدى، وحين تُعرض واضحةً قد تُحاصرها قناعاتٌ أخرى.
الحقيقة بذاتها محايدة، قد تكون رقماً أو تقريراً أو وصفاً علميّا، لكنها ما إن تُقال على الملأ حتى تُصبح خطابا، والخطابُ يحتاج إلى فنٍّ لا يقلُّ عن العلم.
الناس لا تتعامل مع الأرقام كما يتعامل معها الخبير، بل تتساءل: ماذا يعني هذا الرقم في حياتي؟
هل سيتوفرُ الماء في بيتي؟
هل سأزرع أرضي التي اعتّاشُ منها؟
هل سترتفعُ الأسعار في السوق؟
قد يتحدث المسؤولُ بلغة التقارير، لكنَّ الجمهورَ ينتظرُ معلومةً أخرى تلامسُ واقعه، هذه الفجّوة تتسع بفعل تراكماتٍ متشابكة، لغةُ النخبة تختلف عن لغةِ العامّة، وما يبدو بديهياً في قاعة الاجتماعات يصبح غامضاً أمام الشّاشة.
الحقائق الكبيرة تحتاج إلى صور صغيرة تقرّبها، والتشبيه يجعلها أوضح، وإبراز الأثر المباشر يربط المستمعُ بها: كيف سينعكسُ نقصُ المياه على حياته اليوميّة أو على مائدته ومزرعته.
زمنُ “أعمل ودعْ عملكَ يتكلم” انتهى، فالعملُ إذا لم يُرفق بخطابٍ يشرحهُ للناس فإنَّه يضيعُ أو يُساءُ فهمُه ولا سيّما مع وجود المترّبصين أو المنافسة بأنواعِها.
ايضاً ، ثقافةُ الإلغاء في فضاء السوشيال ميديا لا ترحم، فأيُّ كلمةٍ زائدة تتحول إلى وسمٍ ساخر وجملةٍ مألوفةٍ للنُخب قد تبدو غامضةً أو ناقصةَ المعنى لعامة الناس.
العملُ الموجود على أرض الواقع قد يفتقرُ إلى مهارةٍ تسويقه، وهنا يظهرُ دورَ الوسطاء الذين يشكلّون الجسرَ بين المعلومة والجمهور.
المواطنُ قد يقتنع بكلمةٍ من مؤثرٍ في الشاشة الصغيرة أكثرَ مما يقتنع ببيانٍ مطوّل من وزارة، فالفضاءُ الرّقمي يتصدرِ المشهد، ناشطّون وصحفيّون ومدّونون قادرون على تحوّيل المعلومة من نصٍّ جامدٍ إلى قصةٍ تُشاهد وتُناقش. الناسُ تحكمُ بعيونِها، فما دامت الحنفيّةُ تسكبُ الماءَ يصعبُ إقناعُ المواطنِ أنَّ الجفافَ يقترب. لهذا يحتاج ُالخطاب إلى أن يُظهرَ ما وراءَ الحنفية: السدّودُ التي تُدار، التحديّات التي تواجُهها الدولة، والجهود المبذولة لتأمين كلِّ قطرةِ ماء، حينها تتحوُل المعلومةُ من رقمٍ جافٍّ إلى قصةٍ إنسانية تُدرك بالعيّن وتُحسّ بالقلب، فقد تعوّد الناس على المشهد السريع في زمن التكتوك والريلز: مقطعٌ قصير، إنفوغراف مبَسط، صورةٌ تختصرُ الحقيقة في لحظة.
هذه هي لغةُ العصرِ التي تجعل المتلّقي ينصتُ أو يديرُ ظهرهَ في ثوان، لذلك، من المهِم للجهات المسؤولة أن تكسرَ قوالبها التقليديّة وتدخلَ زمن الصورة التي أصبحت ضرورةٌ تفرضها أمزجةُ الناس وأفكارُهم، والرسالة حين تُقدَّم بلغةٍ بصريّة ٍجذابةٍ ومباشرة تصبحُ أقوى من مئةِ فقرةٍ مكتوبةٍ أو لقاءٍ رسميٍّ مطوّل.
مساهمة مشتركة
أيضاً، ومهم جداً ، أن لا تقتصر المعلومة على البقاء في الهواء بلا تطبيق لتفقدَ قيمتها، فالمعلومة يجب أن تُرافق بخطوات عملية حقيقية تدركُ وتلامسُ حياة المواطن.
الناس تريدُ أن ترى انعكاس الحقيقة في حياتها، وإلا بقيت مجرّد خطابٍ يمرّ. وما حدثَ مع وزير الريّ كان مثالاً لمئاتِ الحالات في الخدمات والاقتصاد والصحة والسياسات التي تتبناها، عندها يصعب التكامل او المساهمة المشتركة في انتاج الحلول او منع العقبات التي تعتريها.
إيصالُ الحقيقة اليوم يحتاج إلى أكثر من صدق النوايّا، يحتاج إلى لغة قريبة من الناس، إلى تكرار متنوع، إلى مؤثرين يشرحون ووسطاء يترجمون، وإلى خطابٍ بصريٍّ سريع يناسبُ إيقاع العصر، المعلومة الصحيحة لا تنتصر بذاتها، بل بالأسلوبِ الذي تُقدَّم به وبقدرتها على لمس الحياة اليوميّة، ومن دون هذا الجسر ستبقى الحقائق عُرضةً للإلغاء، وتبقى المشكلاتُ تدور في حلقة مُفرغة. نجاح المجتمعات يبدأ من لحظةٍ صغيرة: أن تُقال الحقيقة كما يفهمها الناس، أن تُقبل كما هي، وأن تتحول إلى فعلٍ ملموس يزيدُ من ثقتِهم بحاضرهم ويمنحهم أملاً في مستقبلهم.