معايير الجودة اللاواقعية
أميمة ابراهيم السامرائي
خلقت الاصابع لتعمل.. لتنجز.. لتكتب ومع كل التطورات وجدت لها وظيفة تعبيرية اسهل تلخص كل تلك النتاجات بضغطة زر لتحول «اللايك» الى شهادة تقييم للأداء وتمنح وسام الجودة. صورة انيقة مفلترة , جملة قصيرة بمعنى عميق.. وربما بلا معنى.. أو حتى خاطرة عابرة يمكن أن تحصد مئات الإعجابات لتصنف مباشرة ضمن «المحتوى الجيد”. نحن نعيش زمنا يقاس فيه العمق بعدد الرموز التعبيرية لا بالابتكارات او الأفكار التي يوقظها النص في العقول. واصبح الذوق الجمعي هو الذي يرفع شخصا الى صدارة الاعجاب اليوم ليضعه غدا في هامش الذاكرة.
هذه الثقافة الرقمية الجديدة لم تجد لها صدى في الشاشات فقط , بل تسللت ببراعة إلى طريقة تفكيرنا الواقعي، حتى غدت بعض مؤسساتنا تعمل بذات المنطق. في كل زاوية من مؤسساتنا لافتة تتحدث عن (الجودة والأداء المتميز والاعتماد المؤسسي). تقارير، استمارات، شعارات معلقة على الجدران تُعلن أن الجودة أصبحت منهج عمل ورؤية طموحة . اوراق.. واوراق تُوثق , تُستنسخ ، تُمزق ويُعاد طباعتها, لكن ما إن تغادر الورق إلى الواقع حتى تكتشف أن كثيرا من هذه المعايير لا تعيش إلا في الملفات الرسمية، وأن تقييم الأداء في الغالب هو تقييم للظهور, للفوز , للوصول على حساب جودة الانجاز. الدوائر الحكومية تتحدث عن تحسين الأداء وتقديم افضل الخدمات للمواطن بينما الأداء يراوح مكانه او يتراجع خطوات للوراء, والجامعات تُفاخر بعدد المؤتمرات، لا بجودة الأبحاث حتى ثقافة المجتمع باتت محكومة بمؤشرات المشاهدات أكثر من مقدار المعرفة. في الفضاء الرقمي والواقعي العقلية واحدة المظهر اولا ثم المضمون, وأن تبدو ناجحا أهم من أن تكون كذلك.
لقد فقدت الجودة معناها الأخلاقي العميق كضمير في العمل، وتحولت إلى تصنيف مؤقت .وفقدنا نحن كأفراد الحس الداخلي في الحكم على الأشياء وتقدير قيمتها الحقيقية. ربما نحتاج اليوم إلى ثورة تعيد الاعتبار للجودة كقيمة إنسانية لا كإجراء إداري, أن نعلم أبناءنا أن المنجز الحقيقي لا يحتاج (إعجابا) ليثبت وجوده أن نفهم أن الجودة ليست في كثرة ما نعرض، بل في القيمة الملموسة. , وكل ضغطة لايك هي فعلا مسؤولا ندعم من خلالها ما يستحق ، والمعايير وضعت للوصول الى واقع أفضل وليس للعيش بوهم الانجاز.