الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إتفاق إنهاء الحرب على غزة بين السلام والقوة

بواسطة azzaman

إتفاق إنهاء الحرب على غزة بين السلام والقوة

محمد علي الحيدري

 

يمثل الاتفاق الأخير لإنهاء الحرب على غزة لحظة مفصلية في توازنات الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، ليس فقط باعتباره محطة تفاوضية جديدة، بل بوصفه انعكاساً لتحولات أعمق في بنية القوة الإقليمية والدولية. فالاتفاق لم يأت نتاج تفاهمات مباشرة بين طرفين متكافئين، بل نتيجة ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية كثيفة مارستها الولايات المتحدة بدعم من وساطات مصرية وقطرية وتركية، في ظل تغير قواعد الاشتباك وتراجع النفوذ العسكري لحركة حماس بعد حرب مدمرة استمرت عامين وأوقعت أكثر من 67 ألف قتيل فلسطيني.

من حيث المضمون السياسي، يحمل الاتفاق سمات “تسوية اضطرارية” أكثر منه “سلاماً تاريخياً”. فهو يشبه، من حيث الشكل، اتفاقيات سابقة مثل أوسلو، لكنه يأتي في سياق مختلف: صعود يمين إسرائيلي متشدد يصوغ الاستراتيجيات الإقليمية بالقوة، ونظام عربي رسمي يقارب القضية الفلسطينية من زاوية المصالح الوطنية والأمن الإقليمي لا من منظور الصراع التاريخي. ومع ذلك، لم يقترب الاتفاق من القضايا الجوهرية التي تمثل جوهر الصراع: القدس، الدولة، حق العودة، والسيادة الكاملة على الأرض. وهذا ما يجعله، في نظر قطاعات فلسطينية واسعة، وصفة لإدارة الأزمة لا حلها.

على الجانب الإسرائيلي، نجح بنيامين نتنياهو في تسويق الاتفاق داخلياً كإنجاز استراتيجي يحقق هدفين: استعادة الأسرى الإسرائيليين والانسحاب الجزئي من غزة مع الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على نحو 53بالمئة من القطاع، خصوصاً محور نتساريم المركزي. لكن جوهر التحدي أمام نتنياهو يبقى في الداخل الإسرائيلي نفسه، حيث تصر تيارات اليمين المتطرف على استكمال الحسم العسكري ونزع سلاح حماس بالكامل. وإذا تعثر تنفيذ الاتفاق أو ماطل نتنياهو في التزاماته، فقد لا يكون الانهيار من الطرف الفلسطيني وحده بل أيضاً من داخل إسرائيل نفسها.

أما حركة حماس، فقد وجدت نفسها أمام معادلة معقدة: القبول باتفاق قد يُنظر إليه كتنازل تاريخي مقابل وقف الحرب وإنقاذ ما تبقى من غزة، أو الاستمرار في حرب استنزاف تهدد وجودها التنظيمي والعسكري. وقد اختارت الحركة طريق التفاوض تحت الضغط، لكنها تواجه تحدياً أشد: إدارة انقسامات داخلية محتملة بين جناح براغماتي يميل إلى التسوية وجناح عسكري يرفض نزع السلاح ويعتبر الاتفاق “فخاً سياسياً”. وإذا لم تُعالج هذه التناقضات بآليات سياسية داخلية، فقد تنفتح الساحة الفلسطينية على سيناريو فراغ أمني خطير قد تستثمره جماعات أكثر تطرفاً.

الولايات المتحدة حققت بدورها مكسباً دبلوماسياً مباشراً عبر إعادة الإمساك بملف الشرق الأوسط وإعادة فرض حضورها كلاعب مركزي بعد سنوات من التردد. غير أن واشنطن لا تزال عاجزة عن تقديم رؤية متوازنة للحل، إذ ركزت خطتها على الأمن ونزع السلاح وإدارة الإعمار عبر “خطة ترامب الاقتصادية”، دون التطرق إلى حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة. وهذا النهج، الذي يقدّم الاقتصاد على السياسة، قد يخلق فرصاً لإعادة بناء غزة لكنه لا يضمن استقراراً طويل الأمد ما لم يقترن بأفق سياسي حقيقي.

استراتيجياً، يمكن للاتفاق أن يشكل نافذة لتحولات كبيرة إذا ما استُثمرت فرصه بذكاء. فمن ناحية، يفتح الباب أمام ترتيبات أمنية جديدة تقلص من فرص اندلاع حرب جديدة على المدى القصير، ويتيح بداية مسار لإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية عبر إدارة انتقالية مدعومة إقليمياً ودولياً. ومن ناحية ثانية، قد يمنح القوى العربية الكبرى، خصوصاً مصر والسعودية والإمارات وقطر، موقعاً متقدماً في صياغة خرائط الاستقرار الإقليمي. غير أن المخاطر تظل كبيرة: انهيار الاتفاق في أي مرحلة سيعيد المنطقة إلى مربع الفوضى، وقد يتسبب بانفجار أوسع يشمل الجبهات الشمالية مع حزب الله وإيران، أو يعيد تشكيل الصراع الفلسطيني بصيغة أكثر راديكالية.

المعادلة النهائية تقول إن الاتفاق ليس نهاية حرب بقدر ما هو اختبار إرادات. نجاحه يتوقف على ثلاثة شروط: التزام الأطراف بآليات التنفيذ دون التفاف، وجود ضمانات دولية حقيقية لا تقتصر على الرقابة الرمزية، وتوافر رؤية تضمن حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وإلا فإن ما يتم تقديمه اليوم على أنه “طريق إلى السلام” قد يتحول غداً إلى جولة جديدة من صراع مؤجل، أكثر عنفاً وتعقيداً، في منطقة لم تعد تحتمل المزيد من الحروب غير المكتملة.

 

 

 


مشاهدات 112
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/10/11 - 3:36 PM
آخر تحديث 2025/10/12 - 2:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 81 الشهر 7584 الكلي 12147439
الوقت الآن
الأحد 2025/10/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير