الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الجامعات مؤسسات لمنح الشهادات

بواسطة azzaman

الجامعات مؤسسات لمنح الشهادات

عدنان سمير دهيرب

 

في القرن الثاني عشر تأسست أولى الجامعات في أوروبا ، لتشكل بالإضافة الى الثورات الصناعية والعلمية والفكرية ثورة تعليمية ، انتهى معها عصر الاقطاع ، وبدء عصر التنوير والحداثة والمجتمع المدني بعد مخاضات طويلة وثورات إجتماعية كمقدمات للنظام الديمقراطي ، لتحقيق قيم جديدة ترتقي بالإنسان والمجتمع . وتشير مصادر عديدة الى أن أكسفورد تخصصت بعلوم الطبيعة وكتبها بالعربية خصوصاً أعمال ابن الهيثم وتجاربه في البصريات ، فيما تخصصت جامعة باريس بالفلسفة ، لا سيما فلسفة ابن رشد ، ويؤكد المفكر مصطفى حجازي أن ابن رشد صاحب فلسفة العقل والبرهان وقاضي قضاة اشبيلية ، وشارح منطق ارسطو ، تعرض في أواخر حياته للاضطهاد والنفي وإحراق كتبه بزعم دعوتها الى الهرطقة الدينية . بينما كان الرشديون الفرنسيون يهربون كتبه سراً الى فرنسا ، ويعتبرونه مرشد التنوير العقلاني . فقد قام الرشديون ( اتباع أبن رشد ) بطرد اللاهوتيين منها ، إذ كانت السوربون كلية لاهوت في الأصل . إثر تلك التغذية الفلسفية العميقة وعلى مدى أكثر من قرنين ، أصبحت تلك المؤسسات واحة للتفكير وتحرير العقل من الغيبيات واليقينيات التي تتمسك بها الكنيسة ، وتفرضها على الناس لقناعتها بأحتكار الحقيقة والعلم باستخدام اللغة اللاتينية التي لم تكن متاحة بين الناس ، تلك الأفكار التي دحضت بالمنهج العلمي الذي أبتكره الفلاسفة مثل فرنسيس بيكون وديكارت وهوبز ولوثر وغيرهم من الذين قدموا للبشرية كنوزاً من المعرفة ما زالت مراجع للدراسة والبحث .

فقد خرّجت تلك الجامعات التي كانت مرجعيتها عربية إسلامية ، عدد كبير من العلماء والمفكرين ، كانوا منارات للعلم والفكر والثقافة التي أسهمت بشكل مباشر في تحرير وتنوير العقول ، وخلقت تحولات هائلة في الواقع الأوربي ، من خلال الابتكارات والمنجزات والاختراعات التي أفادت الأنسانية في الميادين العلمية والفكرية .

وعلى الرغم من الفارق الزمني الطويل بين تأسيس تلك الجامعات الذي يربو على ثمانية قرون ، وتأسيس أولى الجامعات في المنطقة والعراق ، فما زالت لا تشكل منبراً تنويرياً مؤثراً في المجتمع المتلفع بالغيبيات والخرافات والأمراض الاجتماعية . وأصبحت أمتداداً لمرحلتي الابتدائية والثانوية ، تجد فيها التلميذ والطالب مجرد متلقي ، يقرأ ويحفظ ما يلقى عليه لكي يحقق النجاح في الامتحان ، للحصول على شهادة توفر له الوظيفة أو العمل ، في الوقت الحاضر .

فالطلاب في قاعة المحاضرة تنصت للمحاضرة ، ويسمعون الكلمات ويفهمون معناها وبناءها المنطقي ، ويمكن في أحسن الأحوال أن يسجلوها حرفياً في مذكراتهم – كل هذا من أجل أن يحفظوا ما يكتبون في مذكراتهم ويجتازوا الامتحان بنجاح . ولكن المحتوى لا يصبح جزءاً لا يتجزأ من نظامهم الفكري الفردي ، يغنيه ويوسع آفاقه . إنهم ، عوضاً عن ذلك ، يحولون الكلمات التي يسمعونها الى تجمعات فكرية ثابتة أو نظريات بحالها يختزنونها كما هي ويظل الطلاب ومحتوى المحاضرات غريباً كل منهما عن الآخر . ( أريك فروم / الانسان بين الجوهر والمظهر ) . فيما كانت الجامعات خلال العقود المنصرمة بعد التأسيس مؤسسات لإنتاج الحراك الثقافي الناضج قاده عدد كبير من المثقفين والمفكرين وأساتذة الجامعات في مختلف ميادين المعرفة ، لديهم الشغف بالقراءة وإرتقاء الوعي . ولتجسيد الصورة فقد كان غالبية رواد معارض الكتب التي تقام في بغداد ، يرتدون الزي الموحد لطلبة الجامعات ، حين كان ذلك الزي إلزامياً للطلبة . ذلك المشهد ما برح في الذاكرة يوم كنت طالباً في جامعة بغداد . غير ان الواقع الحالي يشير الى تصور مغاير لما كان سائداً ، فقد تلمست ذلك حين كنت تدريسياً في كلية الآداب / جامعة المثنى . فالطالب مجرد متلقي ، حدود معلوماته لا تتجاوز المحاضرات ، لا يكشف عن ذلك الطالب الجامعي المثابر في اختصاصه وغيرها من المعارف الأخرى التي تشير للنضج والتفكير والتأثير في المجتمع . ولتقريب صورة الواقع مثالاً : حين سألت طلبة المرحلة الثالثة قسم الاجتماع عن معنى ( أهل الكتاب ) سمعت إجابات عديدة ، ولكن الجواب الذي ما زال في الذاكرة لغرابته من إحدى الطالبات بالقول ( الذين يقرأون ويكتبون ) ! . ولم يأتِ جواب صحيح سوى من طالب واحد من أصل 150 طالباً ، وهو ما يؤكد أن جُل الطلبة لا يقرأون غير الكتب الدراسية . مشغولون فقط بوسائل التواصل الاجتماعي التي اخترقت حياة الفرد والاسرة والمجتمع وسرقت وقت الانسان ، وهي تضج بالأخبار الكثيرة والسريعة التي تتسم بالتزييف والكذب بنسبة ستة اضعاف الاخبار الصادقة ، إضافة الى ( ترميز التفاهة ) وما تحمله من مواد للتسلية والترفيه والبحث عن معلومات لا تسهم في تطويره معرفياً ، بسبب مضامينها وسرعة تدفقها ، ما يفضي الى عدم التأمل والتركيز على المعلومات ، مما ينتج متلقي سطحي لا يبحث عن الحقيقة ، ولا يسعى الى التطوير ، وإنما التسلية وقضاء الوقت ، وهو جزء من طبيعة الانسان الباحث عن الراحة والكسل . وقبل هذا المتغير في الفضاء الاتصالي ، هو الازمات المتتالية والحروب والاقتتال الطائفي والصراعات وهشاشة الدولة ، التي كان لها الأثر السلبي المباشر على الحياة التعليمية والتربوية وكوادرها التي عاشت معاناة تلك الظروف القاهرة . وأدت الى الاغتراب أحياناً واللامبالاة غالباً .

إن هذه العوامل وغيرها إنعكست على قسم كبير من حاملي الشهادات العليا بوصفهم جزءاً من المشهد ، يفتقرون الى الثقافة ، أذا ما احتسبنا المثقف وفق الفيلسوف سارتر إن ما يجعل من فرد ما مثقفاً هو قدرته على تجاوز الحقل الضيق لاختصاصه ، المثقف هو الشخص الذي يتدخل فيما لا يعنيه ، ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة . ( دفاعاً عن المثقفين ) .أو أن المثقف ليس مهنة ، إنه قد يكون أديباً أو فيلسوفاً أو صحفياً او تقنياً أو جامعياً أو علمياً . ويصبح هؤلاء مثقفين ما أن يتجاوزوا حقلهم التطبيقي أو المختص ، ليعلنوا أفكاراً ذات قيمة مدنية أو إجتماعية أو سياسية . ( أدغار موران / مقدمات للخروج من القرن العشرين ) .  لذلك فأن الغالب هو عدم تجاوز حقل الاختصاص . ويمكن تنميط هذهِ الفئة بنمط المثقف التقني الذي ينحصر نمط إنتاجه الذهني بمهنته العلمية أو اختصاصه المحدد ، تتميز عن غيرها بالمعرفة الاختصاصية وتستمد هذهِ الفئة تبعاً لذلك سلطتها أو قوتها من مزايا تملكها للمعرفة . ( محمد جمال باروت / الدولة والنهضة ) .ويتجلى بتقديم البحوث لأغراض الترقية العلمية والوجاهة وزيادة الراتب . فالبحوث يطلع عليها الخبراء للموافقة أو دونها للنشر في المجلات العلمية المحكمّة ، لينتهي مصيرها على الرفوف في مخازن الكليات دون الإفادة منها من قبل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ، لتطوير العمل والإنتاج والارتقاء بالمجتمع والدولة . مما يؤدي الى فقدان دور الجامعة مثلما يحصل في البلدان المتقدمة ، التي ما زالت بحوث أساتذة الجامعات تشكل أحد الروافد الرئيسة في الابتكار والانجاز العلمي الذي تصرف عليه مليارات الدولارات ، لتوظيفها في المؤسسات الإنتاجية . والاهتمام بالعلوم الاجتماعية لصناعة الوعي والتنمية البشرية من خلال التحليل والتفسير العلمي لقضايا تمس حياة الناس ، بهدف التحفيز للمشاركة في كل مناحي الحياة المثمرة .

 

 


مشاهدات 59
الكاتب عدنان سمير دهيرب
أضيف 2025/10/11 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/10/12 - 2:53 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 86 الشهر 7589 الكلي 12147444
الوقت الآن
الأحد 2025/10/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير