توقعات الكساد طويل الأمد في أمريكا وانعكاساته على العراق
عباس النوري
مقدمة
الاقتصاد الأمريكي هو العصب المحرّك للنظام الرأسمالي العالمي. وعندما تهتز الولايات المتحدة، تهتز معها الأسواق في جميع القارات. لقد شهد العالم قبل قرن تقريبًا ما عُرف بـ الكساد العظيم (1929–1939)، حيث انهارت الأسواق المالية وتبعه إفلاس شركات وبنوك، وارتفعت البطالة إلى مستويات قياسية، وأصيب ملايين البشر بالفقر والجوع. واليوم، يلوح في الأفق شبح كساد جديد قد يكون طويل الأمد، ما يستدعي دراسة تأثيراته المحتملة على العالم والعراق بشكل خاص.
---
أولًا: التأثيرات العالمية للكساد الأمريكي
1. انكماش التجارة الدولية: كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، سيتراجع الاستيراد الأمريكي ما ينعكس سلبًا على الصين وأوروبا وآسيا.
2. انخفاض أسعار النفط: كساد الطلب العالمي يعني هبوط أسعار الطاقة.
3. ارتفاع الذهب والملاذات الآمنة: يهرب المستثمرون إلى الذهب والسندات الآمنة.
4. انعكاسات معيشية: تزايد البطالة والفقر عالميًا، وقد يشهد العالم اضطرابات اجتماعية كما حصل قبل مئة عام.
---
ثانيًا: انعكاسات الكساد على العراق
1. تأثر موازنة الدولة: اعتماد العراق على النفط يجعله أول المتضررين من أي هبوط في أسعاره.
2. تذبذب سعر الدينار: بسبب شح الدولار، وازدهار السوق الموازي.
3. تراجع المشاريع والاستثمارات: إذ تتوقف الشركات العالمية عن ضخ الأموال.
4. تأزم الوضع المعيشي: تضخم أسعار المواد الغذائية، ارتفاع البطالة، وزيادة الفقر.
---
ثالثًا: السيناريوهات المحتملة للاقتصاد العراقي
1️- السيناريو الأسوأ (كساد طويل مع انهيار أسعار النفط)
هبوط سعر النفط إلى 40 دولارًا للبرميل.
عجز مالي سنوي يتجاوز 30 مليار دولار.
ارتفاع معدل البطالة إلى أكثر من 35%.
تراجع قيمة الدينار وازدياد التضخم بنسبة +20%.
انعكاس اجتماعي: اتساع دائرة الفقر لتشمل أكثر من نصف السكان.
2️- السيناريو الوسط (كساد متوسط وتأرجح أسعار النفط)
سعر النفط يستقر حول 60 دولارًا للبرميل.
عجز الموازنة بحدود 15 مليار دولار سنويًا.
بطالة عند 25%، وتضخم بين 10–12%.
استمرار الضغوط المعيشية لكن مع قدرة الدولة على الإيفاء بالرواتب الأساسية.
3️- السيناريو الإيجابي (كساد محدود وتأثير عالمي متوازن)
النفط يستقر عند 75 دولارًا للبرميل.
عجز محدود أو موازنة شبه متوازنة.
بطالة عند حدود 20% مع فرص للنمو في الزراعة والصناعة المحلية.
الحكومة تستغل الأزمة في تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.
---
رابعًا: التدابير الضرورية للحكومة العراقية
1. التحوّط المالي: إنشاء صندوق طوارئ وادخار جزء من عوائد النفط الحالية.
2. الأمن الغذائي: بناء مخزون استراتيجي من الحبوب والمواد الأساسية.
3. تنويع الاقتصاد: دعم الزراعة، الصناعات الصغيرة، والطاقة البديلة.
4. حماية الفقراء: تفعيل برامج دعم نقدي مباشر للفئات الأشد ضعفًا.
5. تشجيع الاستثمار المحلي: تبسيط القوانين وتخفيض البيروقراطية والفساد.
---
خامسًا: دروس من الكساد العظيم قبل مئة عام
فقد ملايين البشر وظائفهم ومنازلهم، وارتفعت معدلات الانتحار والهجرة.
أدركت الدول حينها أن الاعتماد على سوق واحد أو مصدر دخل واحد خطر قاتل.
لجأت بعض الدول إلى برامج أشغال كبرى (مثل "الصفقة الجديدة" في أمريكا) لإنعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل.
هذه التجربة التاريخية تعطي إنذارًا للعراق: لا يمكن بناء الاستقرار على النفط فقط، بل يجب تنويع الاقتصاد وتحصينه من الصدمات الخارجية.
---
خاتمة
الكساد الأمريكي المحتمل قد يكون صعبًا على العالم بأسره، لكنه سيكون أقسى على الدول الأحادية المورد مثل العراق. أمام الحكومة فرصة تاريخية: إما أن تبقى رهينة أسعار النفط وتقع في فخ الأزمات، أو أن تستثمر هذه اللحظة في تنويع مصادر الدخل، وتحقيق الأمن الغذائي، وبناء اقتصاد resilient قادر على مواجهة المستقبل.
لقد علّمنا التاريخ أن الأزمات تحمل معها مخاطر، لكنها أيضًا تفتح بابًا للتغيير والإصلاح إذا ما وُجدت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية.