الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شهادة إنسانية على مأساة العصر وأثرها في الأدب العالمي

بواسطة azzaman

أصوات من تشيرنوبيل والحرب لا وجه لها

شهادة إنسانية على مأساة العصر وأثرها في الأدب العالمي

عصام البرّام

 

أُعلن في عام 2015، عن منح جائزة نوبل في الأدب للكاتبة والصحفية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وهو قرار أكاديمي وثقافي استثنائي، لأنه لم يكرّم روائية أو شاعرة تقليدية، بل كاتبة أختارت طريقًا فريدًا في الكتابة؛ طريق التوثيق الشفاهي وتسجيل الأصوات الحقيقية لضحايا الحروب والكوارث، ليقدم شهادات حيّة عن وجع الإنسان العادي تحت وطأة التأريخ المأساوي. الكاتبة اليكسييفيتش، تستعرض أهم محطات مسيرتها الأدبية، ونحن نسعى لأكتشاف أسلوبها وأثرها في الأدب العالمي، ونغوص في الأبعاد الفنية والدلالات العميقة التي تحويها أعمالها، مع التركيز على أشهر كتباتها: (أصوات من تشيرنوبيل) و(الحرب لا وجه لها).

أسلوب سردي غير تقليدي

تُعدّ أعمال سفيتلانا أليكسييفيتش بمثابة وثائق إنسانية حيّة تخلد تجارب الناجين من الكوارث والحروب، بعيدًا عن سرديات الانتصار الرسمية أو التحليلات السياسية الباردة.

أسلوبها الأدبي الفريد يقوم على جمع شهادات حيّة من أناس عاديين، نجوا أو تأثروا بشدة من الأحداث الكبرى، وتوظيف هذه المقابلات كشكل سردي مركزي في كتاباتها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)»، على سبيل المثال، لا نجد رواية تأريخية بالمعنى التقليدي، بل مجموعة من الشهادات التي تتوزع على صفحات الكتاب، تؤدي دور الشخصيات المختلفة في نص يشبه المسرحية الكورالية. كل شهادة تحمل طابعًا شخصيًا وعاطفيًا قويًا، لكنها في ذات الوقت تمثل نقطة في شبكة أوسع من الألم الجمعي.

هذه التقنية تجعل النص متعدد الأصوات ومتعدد الأبعاد، حيث لا تتبلور الحقيقة من خلال بطل مركزي أو راوي واحد، بل من خلال مداخلات متتالية لأفراد متنوعين، بينهم رجال إطفاء، مهندسون، نساء، أطفال، وحتى جنود. ويتضح أن الهدف ليس فقط سرد الوقائع، بل إظهار الوجه الإنساني للأحداث الكبرى. إنّ الأثر الذي أحدثته سفيتلانا أليكسييفيتش يتجاوز حدود الأدب في بيلاروسيا وروسيا البيضاء، ليصل إلى قلب الأدب العالمي، ويعيد تشكيل مفهوم الكتابة عن الحرب والكوارث. ففي وقت تتسابق فيه الروايات لتقديم سرديات بطولية أو ملحمية، أختارت أليكسييفيتش أن توثق المعاناة بصوت الناس العاديين، الذين لا تجدهم عادة في كتب التاريخ.

هذا التوجه فتح آفاقًا جديدة للأدب الواقعي، حيث أصبح للأدب دور توثيقي مهم في كشف الحقيقة الإنسانية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الكوارث الاجتماعية أو السياسية. وبذلك، أصبح عملها مصدرًا مهمًا لفهم التأريخ المعاصر من خلال تجارب الناس العاديين، وهو أمر لم يكن مألوفًا سابقًا في الأدب العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبها في كتابة الأدب الشفهي ألهم عددًا كبيرًا من الأدباء والصحفيين في العالم، وأصبح نموذجًا لكتابة أدبية تسعى إلى توثيق (الصوت الآخر) والمهمش، وهو ما يبرز مكانة أليكسييفيتش كواحدة من رواد هذا النوع الأدبي.

الأبعاد الفنية بين التوثيق

والدراما

من الناحية الفنية، تتميز أعمال أليكسييفيتش بتداخل عناصر الأدب والوثائق التأريخية، مع توظيف دقيق للغة الشفوية والمباشرة. فنصوصها ليست سردًا جافًا، بل تحمل أبعادًا درامية وأدبية توصل القارئ إلى مستوى عالٍ من التعاطف والتأمل. تستخدم أليكسييفيتش في كتاباتها تقنية تكرار بعض العبارات والمواقف، ما يعكس الحلقات المتكررة للألم والمعاناة التي يعايشها الناجون. كما تستثمر الفوارق اللغوية بين المتحدثين، مثل اللهجات واللكنة، مما يمنح النص ملمسًا واقعيًا وإنسانيًا.

تكمن عبقريتها أيضًا في قدرتها على تحويل سرديات فردية إلى تجربة جماعية، بحيث لا تُحكى قصة واحدة فقط، بل تخلق نسيجًا من الأصوات المتداخلة التي تتيح للقارئ أن يشعر بثقل التأريخ وتأثيره النفسي والاجتماعي العميق.

ذاكرة الألم وصمت السلطة

تحت السطح الإنساني والدرامي في أعمال أليكسييفيتش، تنبثق دلالات عميقة تتعلق بالذاكرة الجمعية والهوية الإنسانية. فكتاباتها تشكل دراسة عميقة لظاهرة النسيان والمقاومة عبر الحكي، إذ تُظهر كيف يحاول الإنسان أن يحفظ جراحه ويعيد بناء ذاته من خلال الكلام، وكيف أن الصمت الرسمي والدولة غالبًا ما تحاول كتم الحقيقة أو تحريفها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)، تتداخل دلالات الكارثة النووية مع تساؤلات عن طبيعة الحضارة الحديثة، وتحذيرات من مخاطر التقدم العلمي بلا ضوابط أخلاقية، وهي بذلك تفتح نــــــــــــــــــقاشًا فلسفيًا عن مسؤولية الإنسان تجاه التكنولوجيا والطبيعة. إنه عمل فــــــــــــــــــــني وإنساني استثنائي.

إذ لا تكتفي الكاتبة بسرد كارثة انفجار المفاعل النووي في عام 1986، بل تقدم موسوعة حيًة من المعاناة البشرية التي خلفها الحادث، بما في ذلك العواقب الصحية والاجتماعية والنفسية والبيئية.

تجمع الكاتبة بين أصوات الضحايا، والناجين، والعاملين في عمليات الإطفاء والإخلاء، والباحثين، وصناع القرار، لتخلق بذلك لوحة معقدة ومتعددة الأوجه عن مأساة لم تشهدها البشرية من قبل. وبذلك، يشكل الكتاب شهادة نادرة على خطورة التكنولوجيات النووية، وعلى هشاشة الأنظمة السياسية التي تغض الطرف عن حقيقة الكارثة. النص لا يحمل فقط أبعادًا تاريخية، بل يطرح أسئلة إنسانية عميقة حول الألم والخسارة والذاكرة، مما يجعله يتجاوز حدود الوطن إلى مشهد عالمي.

الحرب لا وجه لها

في عملها الآخر المهم (الحرب لا وجه لها)، تواصل أليكسييفيتش استكشافها للوجع الإنساني، هذه المرة من خلال الحرب العالمية الثانية التي لا تزال تترك أثرها على مجتمعات ما بعد فترة الاتحاد السوفيتي. إذ يقدم الكتاب شهادات لجنود سابقين ونساء وأطفال عايشوا الحرب، موضحًا بشكل مؤلم أن الحروب لا تترك سوى خسائر إنسانية لا تندمل، وأن الروايات الرسمية التي تمجد الانتصارات تخفي الحقيقة القاسية.

في هذا العمل، يكشف أسلوبها عن الألم النفسي، فقدان الإنسانية، والعزلة التي يشعر بها الناجون، ويؤكد على أن الحرب ليست مجرد تأريخ، بل تجربة إنسانية متجذرة في ذاكرة الأفراد والجماعات. فتبرز الدلالات الأشد عمقًا عن وجه الحرب الحقيقي، الذي لا يظهر في الأرقام الرسمية أو الصور البطولية، بل في وجوه الجرحى، وفي دموع النساء اللاتي فقدن أحبائهن، وفي الصدمات النفسية التي لا تنتهي. إن الكتاب يكشف كيف أن الحرب ليست مجرد أحداث عسكرية، بل تجربة إنسانية مأساوية تدمر النفوس والعلاقات الاجتماعية.

أثرها الإنساني والثقافي

لا يمكن إنكار الأثر العميق الذي تركته أعمال أليكسييفيتش على القارئ والناقد على حد سواء. فبفضلها، أصبحت أصوات (المهمّشين) مسموعة، وأضحى للأدب دور في كشف الحقيقة والتعاطف مع الضحايا بدلًا من تغليب سرديات القوة والسياسة.

وأصبحت أليكسييفيتش رمزًا عالميًا للكتابة الملتزمة، التي لا تهدف إلى الترف الأدبي فقط، بل تسعى إلى خدمة الذاكرة الإنسانية، وتحفيز المجتمع على مواجهة مآسيه، والإعتراف بها كجزء من هويته التأريخية. فالكاتبة تقدم نموذجًا فريدًا للأدب الحديث؛ حيث تجتمع فيه مهنية الصحفي والروائي والشاعر لتخلق سردًا إنسانيًا متميزًا، وأعمالها ليست فقط وثائق تأريخية أو سرديات شخصية، بل هي تجربة إنسانية جماعية تمس عمق الوجدان البشري.

إنّ جائزة نوبل التي نالتها، تعكس هذا الدور الإستثنائي، وتسلط الضوء على أهمية الأدب كمرآة تعكس واقع الإنسان في أحلك لحظاته، وتعيد صياغة التأريخ من وجهة نظر من عاشوه، ليصبح صوتهم خالدًا في الذاكرة الإنسانية، وبهذا تكون أليكسييفيتش قد أسهمت في بناء جسر بين الماضي والحاضر، وبين الفرد والمجتمع، وبين الألم والذاكرة، لتظل شهادتها دائمًا واحدة من أهم نوافذ الأدب الإنساني المعاصر.


مشاهدات 40
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/09/16 - 3:02 PM
آخر تحديث 2025/09/17 - 12:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 9 الشهر 11621 الكلي 12029494
الوقت الآن
الأربعاء 2025/9/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير