من تراب الروايات إلى نور البصيرة دعوة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي
نوري جاسم
في خضم العواصف الفكرية والتشويشات التي تطال الإسلام وتاريخه، تزداد الحاجة إلى مشروع روحيّ، عميق، إنسانيّ، متجذّر في جوهر الدين لا في قشوره. مشروع يعيد قراءة التاريخ الإسلامي لا بوصفه سرداً سياسياً عن تعاقب الدول، وحكايات تتناقلها كتب التراث بمزيج من الحقيقة والأسطورة، بل بوصفه مدداً روحياً يتدفق من الذاكرة النورانية للأمة. من هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى تنفيذ ما طرح مراراً من ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، كتابة تليق بروحه الإلهية التي نزل بها الوحي، وتليق بتضحيات الأنبياء وال البيت الطيبين الطاهرين، والصحابة المخلصين الصادقين، والأولياء والصالحين الذين صنعوه بدمهم وصدقهم وتوكلهم. ولقد عبث المستشرقون والمستغربون بتاريخنا، فحرّفوا كثير من مفاهيمه وبدّلوا اجزاء من معانيه، وحوّلوه من معينٍ للتزكية والفهم الحضاري إلى سجل دموي مشوّه، يتلاعبون بتفاصيله ويغرسون فيه بذور الشك والفرقة والعدمية. وقد استغل بعض أهل الأهواء هذا العبث لزرع الاضطراب في قلوب الشباب، حتى باتوا لا يرون في التاريخ إلا سلسلة من الصراعات على الحكم والترف والمجون. لكن هذا الظلام لم ولن يُطفئ نور الحق، فكما يقول أهل التصوف: "النور لا يُطفَأ، بل يُحتجب"، وما علينا إلا أن نزيح الحُجب. والتاريخ ماضٍ نُؤرخ له، وحياة قائمة ممتدة في الوجدان. فالأمة التي تنقطع عن تاريخها كالجسد الذي فُصِل عن روحه. الماضي هو مفتاح الحاضر، وروح المستقبل، وأداته الكبرى في الفهم والاستبصار. والقرآن الكريم حافل بقصص السابقين، ليس للتسلية، بل للتزكية والتذكير والتربية. قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، [ يوسف ، 111 ] وهذه العبرة هي روح التاريخ الإسلامي التي آن لها أن تُبعث من جديد، ومن أبرز الشخصيات التي دعت إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، جمال الدين الأفغاني (1838 م– 1897م) ومحمد عبده (1849 م– 1905م) وعبد الحميد بن باديس (1889م – 1940م) ومالك بن نبي (1905م – 1973م) وأبو الأعلى المودودي (1903م – 1979م) ومحمد الغزالي (1917م – 1996م) ومحمود محمد شاكر (1909 م– 1997م) وعبد الصبور شاهين (1929 م– 2006م) وأنور الجندي (1917م – 2002م) ومحمد عمارة (1931م – 2020م) وطه عبد الرحمن ( 1944م) وسيد حسين نصر (ولد عام 1933 م) وعلي شريعتي (1933م – 1977م) وعبد الله العروي (ولد عام 1933م) وصادق العظم (1934م – 2016م) وعلي الوردي (1913م – 1995م) وسيد القمي (1947م – 2022م) وإبراهيم عيسى (ولد عام 1964م) ومحمد شحرور (1938م – 2019م) وياسين الحافظ (1930 م– 1978م) وكانت دعوات هؤلاء المفكرين والعلماء، على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم، تجتمع في همٍّ واحد وهو الحاجة الماسّة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بروح واعية، نقدية، وإنسانية. فقد أدركوا أن ما وصلنا من التاريخ لم يكن دومًا نقياً، بل اختلط فيه الصحيح بالموضوع، والمقدس بالسياسي، والحكمة بالدعاية. نادوا جميعاً بضرورة تنقية الروايات، وقراءة الأحداث بمنهج علمي، يستعيد البُعد الحضاري والأخلاقي للإسلام، بعيداً عن التشويه أو التمجيد الأعمى. غير أن معظم هذه الدعوات، رغم صدقها وأهميتها، بقيت في دائرة "الأمنيات" و"النداءات النظرية"، لأن المشروع أوسع وأعمق من جهود فردية أو دراسات جزئية. إن إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ليست مجرد إعادة سرد، بل مشروع حضاري متكامل، يتطلب رؤية موحدة، وتعاوناً عابراً للمدارس والمذاهب، وإخلاصاً نابعاً من القلب، لا تحكمه الأيديولوجيات أو النزاعات السياسية. لهذا، ما زال الطريق أمامنا مفتوحاً، وما زال الأمل قائماً بأن تُستأنف هذه الدعوة بروح عرفانية صوفية روحية جامعة، تحفظ نور الرسالة، وتصون الذاكرة من التزييف. وهذا ما تضمنته
دعوة السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني (1938م _ 2020 م ) (قدّس سره) والسيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان القادري الحسيني (1969 م ) (قدّس سره) وهي ليست مجرد مبادرة فكرية، بل هي نداء عرفانيّ روحيّ يحمل في طياته بصيرة الواصلين، وتوق العارفين إلى تنقية تاريخ الأمة من كل ما شوّه قدسيته وجماله. إنها دعوة لا يُراد منها التفاخر بسردية ماضٍ غابر، بل بثّ الروح في النص، وتطهيره من أكدار السياسة والتعصب والافتراء. إنها دعوة تجمع بين القلب والعقل، بين الذكر والفكر، بين ظاهر النص وجوهره، من أجل إعادة وصل الأمة بتاريخها الحقيقي، النقي، المتصل بسند النور المحمدي. ولقد آن الأوان لكتابة التاريخ الإسلامي بعيون المحبة لا الحقد، بميزان الروح لا بسطوة السيف، بمنهج روحي لا سياسي، بمنهج إنسانيّ لا عنصري. آن الأوان لأن تُكتب السيرة كأنشودة صفاء، ينساب منها عطر ال البيت والصحابة الكرام، وشذى الأولياء، ودمعة العابدين، ونور المجاهدين، وأنفاس المحبين في محاريب الليل. إن الأمة لا تحتاج إلى المزيد من التواريخ المتحجّرة، بل إلى قراءة جديدة، الإنسان، وتفتح فيه أبواب الفهم والسكون والتسليم. ولهذا العمل الجليل أركان لا غنى عنها. أولها ( التنقية )، فلقد امتلأت كتب التاريخ الإسلامي بروايات ضعيفة وموضوعة، كانت السبب في كثير من الفهم المنحرف، ولا بد من غربلتها بعين التحقيق النزيه، لا المتحيّز، وبروح المحبة لا الكراهية. ثانيها ( التكامل ) فلا بد أن تشترك كل الأصوات المعتدلة، من كل المذاهب والتوجهات، في هذا المشروع، لأن التاريخ الإسلامي ليس ملكاً لطائفة دون أخرى، بل هو نهر واحد تدفقت فيه روافد متعددة، متحدة في مقصدها، وإن اختلفت في طريقتها. وثالثها ( النية ) وهي أعظم الأركان، فلكل عمل نية، ولا يثمر هذا العمل إلا إن كانت النية خالصة لله، لصيانة الدين، وتكريم رموزه، وردّ الاعتبار لما لُطّخ ظلماً وعدواناً، ونحن لا نكتب الماضي لأجل الماضي، بل نكتبه لأجل الإنسان. لأجل هذا الشاب الحائر الذي لم يجد في كتب المدرسة غير الدم والسيف والقصور، ولم يجد في الفضائيات غير الطعن والتشكيك والتكفير، ولم يجد في نفسه جواباً إذا سُئل: ما معنى أن تكون مسلماً؟ نحن نكتب ليعرف هذا الشاب أن التاريخ الإسلامي ليس هو تاريخ الطغاة بل هو تاريخ الأنبياء، وليس هو سيرة الانقلابات بل سيرة القلوب التي خضعت لرب العالمين، وأعطت الدنيا ظهرها، وسارت في الطريق العرفانيّ لا تطلب إلا وجه الله. إنها دعوة عالمية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. لأنها تتوجه للعالم، ولأنها تُخرج الإسلام من أسر الجغرافيا والطائفة، إلى فضائه الإنسانيّ الرحب، كما أراده الله وكما بلّغه سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكما فهمه وسلكه أهل الله في كل زمان ومكان. إنها كتابة نورانية، قلبها العرفان، وسندها الذكر، وروحها الخدمة، وأداتها الحب، وغايتها الله. وإذا كنا نرجو لهذا المشروع أن يثمر، فلا بد أن يبدأ من اليوم، لا من الغد. أن نبدأ بوعي عميق أن كتابة التاريخ ليست عملاً أكاديمياً بارداً، بل مسؤولية روحية وأخلاقية، وأن الذين سيكتبونه هم الذين فهموا السرّ وذاقوا المعنى، ووقفوا على عتبات المحبة، وتطهرت قلوبهم من الغلّ. من هنا، تصبح إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ليست إصلاحاً شكلياً، بل بعثاً روحياً، وحركة عرفانية متصلة بالنور المحمدي، وعهداً جديداً بين هذه الأمة وذاتها. ولله الأمر من قبل ومن بعد...
اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...