جرفان في زمن السراب
لهيب عبدالخالق
ناديتُ فيكَ… ولا صدى
إلّا انكسارَ الصوتِ في العُشبِ القديمْ.
لا ظلَّ يحملني إليكَ
ولا طريقَ إلى الندى
إلّا خُطايَ،
وما تبقّى من يدَيَّ على الجحيمْ.
من حرِّ طينِكَ جئتُ ساجيةً كما حلمٍ بعيدٍ
وانقدَحتُ من احتمالِكْ.
سَمراءُ كالوهج الذي قدَّ المساءُ،
كما حكاياتِ السنابلِ
تنسجُ الأقدار من نهرٍ عتيقٍ،
أو جريدٍ في سجالكْ.
كَيفَ انتهَينا فوقَ جُرفَينِ:
استوَيْتَ على تخومِ الفجرِ
تتلو آيَـهُ،
وأنا أُحاوِلُ أن أكونَـكْ.
ما زلتُ أطرقُ صمتَكَ العالي
كأني كنتُ أبكي صهوتي
لمّا تساقطَ في المدى وجهي،
وصارَ الحُبُّ منفى
والندى ريحًا عقيمةْ.
يا نخلةً من ضلع جدّي،
كنتَ ظلَّي كلما نادى الترابُ،
وكنتَ أوتارَ الصلاةَ المُبهمةْ،
حين ارتجفتُ،
ولم تكنْ إلّا خطايَ،
وخوفَ أيامي اليتيمةْ.
عينايَ تزرعُ في المدى
أثرَ الجهاتِ، وسرَّ نخلي في الحقولْ.
ريحانُ صدركِ لا يُردُّ،
ولا يُقالُ له: تروَّ
ولا يُطالُ، ولا يُذَلُّ،
ولا يزولْ.
فيكِ انتثارُ الكاهناتِ،
وفيكِ محرابٌ
يفيضُ ولا يقولْ.
ما عدتُ أعرفُ من أنا،
فيكِ الحياةُ تشدُّني
وأنا أفرُّ إلى الغيابْ.
كلُّ الجهاتِ رمادُها في صدركِ الأوّلْ،
وشهقاتُ المرايا
لم تعدْ تدري ملامحَها،
ولا شوقَ السحابْ.
هل كنتَ سرَّ الضوء
أم طيناً يخبّئ في احتمالات الظهيرةِ
أمنياتٍ لا تنامْ ؟
هل كنتَ صدري حين أعيا الحرفُ صوتي
في اشتعالات الغمامْ.
أم كنتَ روحي حين غاب الحلمُ
في جسدِ الظلامْ؟
هذا الغيابُ، ولم أزلْ
أرجوكَ في صمتِ الرمادِ وفي الزمانْ.
صوتي تُبعثرهُ الخطى
ويعودُ من ليلِ السؤالِ
إلى انكساراتِ الأذانْ.
فيكَ انتهيتُ…
وما انتهيتُ،
كأنني
سرٌّ يُسافرُ في الجِنانْ.
فيكِ انبثقتُ، ولم أكنْ
إلّا رمادَ الطينِ يرجو شهقةَ الماءِ القديمْ.
شمسٌ تدورُ على يديَّ
وتستفزُّ خُطايَ في حلمٍ
تفتّقَ من سديمْ.
يا ماؤكَ الأوّلْ،
تعالَ إليَّ ملتحفا سناكَ
فكلُّ ما فيّ احتمالاتُ الهزيمْ.
من أينَ جئتَ؟
وفي يديكَ الطميُ مصبوغا بألوان الدماءْ؟
ما بينَ ظلِّكَ والندى
عَرَقُ المواسمِ،
واحتراقُ اللفظةِ الأولى،
وأسرارُ الخزائنْ.
أنتَ الذي اشعلَتَ كانونَ السماءِ
فصارَ صوتي
أوّلَ الناجينَ
من تيهِ المدائنْ.
هل كنتَ لي؟
أم كنتُ فيكَ ملامحًا لا تستقيمْ.
لغةً تشظّتْ حين فاضَ الطينُ
بالأسماءِ، وانتثرَ الحُطامْ؟
يا أرضُ،
يا وطنَ الشظايا،
كم تركتَ على يديَّ مجامراً،
أوجاعَكَ الأُولى،
ونمتَ كغيمةٍ
ضاعتْ من السِربِ القديمْ.