التشظي وذاكرة المكان في ديوان (نهر ظمي) للشاعر عبد المنعم حمندي
ايمان زيادة
في ديوانه "نهر ظمي"، الصادر عن وزارة الثقافة العراقية في بغداد عام 2024، يرسم الشاعر العراقي عبد المنعم حمندي خريطة للخراب الداخلي والاغتراب الوجودي من خلال لغة شعرية نابضة بالأسى والتمرد، مستندًا إلى رمزية مشبعة بميراث المكان وحمولات الذاكرة الجمعية. يقع الديوان في 136 صفحة من القطع المتوسط، ويضم 127 قصيدة تفعيلة، تتصاعد فيها أصوات الذات المكسورة، الوطن الجريح، والمكان المستباح، في مشهد شعري كثيف الرموز، تتناوب فيه قصائد مثل "من أين أبدأ الحكاية؟" و "هل غاب الشعراء؟" و"رماد" و "يا شام.. قلبي معك" و"لست الصنوبر.. المدينة ميتة" و "تلة أم عامر" وهي منطقة تراثية في النصيرات في قلب غزة لم تسلم من العدوان الصهيوني في 2021، وغيرها.
أولاً: عنوان الديوان بوصفه مفتاح التأويل
العنوان "نهر ظمي" يبدو متناقضًا من الوهلة الأولى: النهر ـ وهو عادة رمز للخصوبة والتجدد والحياة ـ يرتبط هنا بالظمأ، بما يوحي بانقلاب رمزي للطبيعة نفسها؛ فحتى منبع الحياة أصبح عاجزًا عن الارتواء، كأنَّ العراق – بلد الرافدين – قد فقد صلته بجذوره التاريخية والمكانية، وصار يعاني جفافًا وجوديًا لا ترويه الأنهار، هذا التضاد يحاكي حالة العراق المعاصر: بلد الخصب والأنهار (الرافدين) الذي يعاني الجفاف السياسي والروحي، والتصحر القيمي والمكاني. فالنهر هنا لم يعد منبعًا للحياة، بل شاهدًا على موتها.
ثانيًا: التشظي والاغتراب في "من أين أبدأ الحكاية؟"
في افتتاحية الديوان، تبرز القصيدة "من أين أبدأ الحكاية؟" كنص مفصلي، يختزل ملامح التشظي والقلق الوجودي:
سقط الجواد..
تضرجت بدمائه كل الشعارات القديمة
والخطى أخطاؤنا خشبٌ.. خشب
فكيف أمشي في طريق من لهب"
إن الجواد يمثل الحلم الجمعي الذي سقط تحت ثقل التاريخ والزيف. سقوطه يدشن عهدًا من الرماد. هذا الانكسار يتجلى في صورة الخطى الخشبية المتيبسة، والتي تعني أن حتى الحركة صارت فاقدة للمعنى.
ثمّ تأتي إحدى أهم المقاطع الرمزية التي تستدعي المكان الأسطوري:
يا أهل (إرم) السادرين بغيهم
إن العروق ضلالة
وعفونة الخبز المضرج بالرماد
إرم هنا ليست مجرد مدينة أسطورية، بل تجسيد للمكان الذي تهدمت فيه المعاني الروحية والسياسية. إنها مرآة للعالم العربي المعاصر حيث استبداد السلطة وفسادها جعلا من الحياة خبزًا متعفنًا ورمادًا. ما يؤلم في هذا الاستحضار هو أنه ليس للتاريخ، بل للواقع.
ثالثًا: المكان الجريح كذاكرة مثقلة
في رؤيته لجماليات المكان، يرى غاستون باشلار أن المكان ليس وعاءً جامدًا بل فضاءً ينبض بالذاكرة والمشاعر والرموز. تنطبق هذه الرؤية على قصائد حمندي، الذي يتعامل مع المكان ككائن يئن ويتكلم. ففي قصيدة "رماد":"
عطش البلاد برافديها والنخيل غاضب
يتوسل الغيم إذا شحَّ المطر
لا الغيب يطفئ نارها
لا الريح
لا هذا النهر
المكان هنا فقد فاعليته، وصار مجرد ذكرى لأمل غابر. إنه مكان يحنّ ولا يُحنّ إليه. ذاكرة المكان تتألم، مثلما تتألم الذات في محاولتها أن تتصالح مع الخراب المحيط
للعشب ذاكرة تموء وراءنا
قرف الردى من جثة الزمن المعار
المواء، صوت القطة الجريحة، ينقلنا إلى أنين ذاكرة لم يعد فيها متسع للحياة، بل لفائض من الموت المستعار والمكرر.
رابعًا: في عمق الاغتراب... الذات والعالم
الاغتراب عند حمندي ليس حالة شعورية فقط، بل موقف وجودي. لا يتعلق فقط بفقدان الوطن أو الحنين إلى الماضي، بل بإحساس عميق بالتمزق الداخلي أمام واقع مفكك. يقول في إحدى أكثر قصائده صدقًا وتوجعًا:
من أي جرح أسكب الدمع الهتون؟
وكيف أختزل الرياح
وطائر بلا جناح
وكيف أصعد للنجوم
وغزة الثكلى تنوح بها الجراح؟
إنه يضعنا أمام مشهد كوني من العجز: لا طائر له جناح، ولا دمع يسعف، ولا نجم يُرتقى إليه. يرتبط هذا المقطع بغزة، التي تصبح هنا ليست جغرافيا فحسب، بل جرحًا أخلاقيًا وإنسانيًا. إنها صورة الإنسان المهزوم في زمن بلا معجزات، حيث حتى الحزن لا يجد موضعًا ينهمر فيه
يقول مصطفى ناصف في دراسته عن الاغتراب في الشعر العربي: "الاغتراب يتجاوز الفقد الجغرافي ليبلغ حدود الانفصال عن الذات واللغة والمجتمع. إنه صراع داخلي في مواجهة لغة خائبة وعالم غريب عن الروح". وهو ما يتجلى في شعر حمندي بوضوح؛ إذ يُدرك الذات وهي تذوب بين خراب الخارج وتفتت الداخل.
خامسًا: تناص النبوة والتيه
في قصيدة "هل غاب الشعراء؟"، يخرج الشاعر من دائرة الحزن إلى مقام النبوة
مثل نبي أحمل قلبي وكتابي
وعصاي أهش بها من يتنمر بين كلابي
يحمل الشاعر قلبه وكتابه كما كان الأنبياء يحملون رسالاتهم، لكن البيئة مختلفة: لا معجزات، بل كلاب، وتنمّر، ولغة مدنّسة. القصيدة هنا تتحول إلى عصا موسى، لكنها لا تشق البحر، بل تُشهر بوجه التردي العام.
سادسًا: من الشام إلى بغداد... مدن بلا ذاكرة
تتكرر صورة المدن المهزومة والمكان المنكسر في أكثر من موضع، كما في "يا شام.. قلبي معك":
عضت بأهداب البراءة ذئبة عمياء
لا تدري بأن مزاغل الفجر الحزين
معميات بالشام
البراءة تُفترس، والفجر يُقمع، والمدن تتحول إلى كيانات لا تتذكر إلا الألم. المكان ليس مشهدًا، بل مأساة.
وكذلك في "لست الصنوبر.. المدينة ميتة":
الشوارع مكسوة بالسخام
اختنقت.. فهذا الدخان ثقيل
وهذي المدينة شاحبة
غادرتها العصافير
الشاعر وحده يبقى في المدينة الميتة، مثل شاهد على انقراض الحلم
سابعًا: القصيدة بوصفها مقاومة الاندثار
وهذا المقطع من القصيدة الأولى لكنني اخترت أن يكون خاتمة القراءة لأنني ارتأيت فيه قدرة الشاعر على تضمين المحتوى العام لقصائد الديوان جميعها:
من أي ليل يولد الحلم الجديد؟
من السواد.
من انكسار الياسمين.. من الحداد.
من المراثي الغائرات.
من أي ليل؟
والبلاد لم تعد تلك البلاد.
السؤال المفتوح في المقطع السابق لا يبحث عن إجابة، بل يصرخ ضد الصمت. إنه وعي مأساوي يستبطن فكرة أن الخراب لا يُرمم، لكنه يُدوَّن. والقصيدة – في هذا السياق – ليست حلماً ولا خلاصًا، بل مقاومة ضد النسيان، وذاكرة متقدة في وجه الهاوية.
وأخيرًا، إذا كانت البيستملوجيا تُعنى بكشف الطبقات الأعمق للخطاب الشعري، فإن ديوان "نهر ظمي" لعبد المنعم حمندي يُمكن قراءته كخطاب مكتظ بالحزن البيستملوجي، حيث تنفجر اللغة من شدة الانفعال الداخلي، وتتحول القصيدة إلى وعاء للذاكرة، ولجراح لا تندمل. نرى تشظي الذات وتفتت المعنى، حيث لا خلاص سوى في إعادة تشكيل الحطام. فـ"نهر ظمي" ليس خطابًا إنشائيًا، بل يتكئ على ما يسميه عز الدين المناصرة بـ"المعرفة الشعرية" بوصفها أداة لمساءلة الوجود واللغة معًا، حيث تصبح القصيدة "فضاءً تأويليًا مشبعًا بالتحولات النفسية والجمالية"
إن الباشلارية في تصور المكان تتيح لنا فهم هذا الحضور الطاغي للجغرافيا المتألمة بوصفها كائنًا حالمًا، ينطوي على تاريخه ومآسيه ومخيلته الخاصة. في هذا السياق، يتجاوز المكان في شعر حمندي كونه ديكورًا للقصيدة، ليصبح أحد أبطالها الفاعلين.
القصيدة عند حمندي ليست احتفالًا باللغة، بل مقاومة ضد محو الذاكرة؛ ضد سطوة الخراب. إنها فاعلية جمالية ضد السكون، وصيحة ضد الموت. وفي النهاية، فإن ديوان "نهر ظمي" لا يكتفي بتوثيق الحداد، بل يراهن على الشعر كأداة لاستعادة المعنى، ولو من رماد المدن.
إيمان محمد زيادة
عمان
30/5/2025
المراجع
- باشلار، غاستون، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، وزارة الثقافة، مكتبة الأسرة الأردنية، عمان، 2020.
- حمندي، عبد المنعم، نهرٌ ظمي، وزارة الثقافة العراقية، بغداد، 2024.
- المناصرة، عز الدين، المعرفة الشعرية: إشكاليات التلقي والتأويل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2011.
- ناصف، مصطفى، الاغتراب في الشعر العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005.