الفوضى الحزبية في العراق: لا ديمقراطية ولا تمثيل مكونات
محمد عبد الجبار الشبوط
تعيش الحياة السياسية في العراق أزمة بنيوية عميقة، تتمثل في اختلال النظام الحزبي وتضخمه غير المنضبط، وتناقضه مع كل منطق ديمقراطي أو تمثيلي. فالنخبة السياسية العراقية، على اختلاف انتماءاتها الفئوية (شيعة، سنة، أكراد)، أضاعت "المشيتين": لا هي ديمقراطية بحق، ولا هي مكوناتية بالمعنى التمثيلي المنضبط.
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، أُعيد تشكيل النظام السياسي العراقي على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، مما أدى إلى نشوء نظام حزبي متضخم وغير منضبط. فقد تم تسجيل أكثر من 330 حزبًا سياسيًا منذ عام 2015، مع 106 أحزاب أعلنت نيتها المشاركة في الانتخابات المقبلة . هذا العدد الكبير من الأحزاب لا يعكس تعددية ديمقراطية حقيقية، بل يشير إلى فوضى حزبية تستغل النظام لتحقيق مكاسب شخصية وفئوية.
أزمة التعددية الشكلية
في الديمقراطيات المستقرة، تُبنى الأنظمة الحزبية على أساس عقلاني، ينتج عنه عدد محدود من الأحزاب القادرة على تمثيل الاتجاهات الرئيسة في المجتمع (عادة 5-7 أحزاب). في العراق، يتجاوز عدد الأحزاب المسجلة مئات الكيانات، كثير منها بلا قاعدة شعبية أو مشروع سياسي، لكنها موجودة للاستفادة من نظام المحاصصة، وتمرير المصالح، وشرعنة الفساد.
حتى إذا افترضنا أن النظام السياسي "مكوناتـي"، أي قائم على تمثيل المكونات الرئيسية، فإن المنطق يقول إن كل مكون يحتاج إلى حزب رئيسي واحد يمثل إرادته ويتحمل مسؤولية أدائه. هذا لا يحدث. فالمشهد الشيعي، السني، والكردي مجزأ إلى كتل متصارعة تتنافس على الغنائم لا على البرامج، ما يعمّق الانقسام داخل كل مكون، ويفقد الدولة أي مركز ثقل سياسي أو تفاوضي.
ما نشهده ليس تعددية ديمقراطية، بل فوضى حزبية مقنّعة. وهي لا تؤدي إلى تداول سلطة، أو إلى مساءلة فعلية، بل تُعيد إنتاج نفس الوجوه والأحزاب من خلال آليات تحاصص، وصفقات، وترتيبات ما قبل الانتخاب، لا ما بعده.
الأثر العملي للفوضى الحزبية
أدت كثرة الأحزاب إلى تفتيت الإرادة الوطنية، وضعف قدرة البرلمان على إنتاج قرارات نوعية، وإضعاف الحكومات وتحويلها إلى "ائتلافات هشّة". كما أن هذه الفوضى الحزبية ساهمت في تعميق الفساد، وتفشي المحسوبية، وتدهور الخدمات العامة.
في دول ديمقراطية مستقرة مثل ألمانيا أو بريطانيا، يوجد عدد محدود من الأحزاب الكبرى التي تمثل الاتجاهات الرئيسة في المجتمع، مما يساهم في تماسك القرار السياسي، واستقرار الحكومات، وتعزيز الثقة بين المواطنين والنظام السياسي. أما في العراق، فإن التعددية الحزبية غير المنضبطة تؤدي إلى تفتيت القرار السياسي، وعدم استقرار الحكومات، وتآكل الثقة بين المواطنين والنظام السياسي.
مقترحات للإصلاح
لبناء حياة سياسية سليمة (وكنت الح على هذا المصطلح منذ ثمانينات القرن الماضي) ، لا بد من إصلاح النظام الحزبي في العراق، وتشجيع الاندماج الحزبي، ومنع تمويل الأحزاب من المال العام، وإعادة تعريف معايير تسجيل الحزب ومشاركته في الانتخابات. كما يمكن التفكير بقانون أحزاب جديد يُقيّد المشاركة بالانتخابات بحد أدنى من التمثيل الحقيقي.
إصلاح النظام الحزبي هو شرط لبناء الدولة الحضارية الحديثة، فالفوضى الحزبية لا تنتج إلا نخبًا فاشلة وفاسدة. بدون هذا الإصلاح، ستبقى النخبة السياسية عاجزة عن بناء دولة فعالة، وستظل التعددية الحزبية عبئًا على الديمقراطية، لا أداة لتعزيزها.