الشعر العربي في مفترق الطرق: فصيحٌ يُنسى وشعبيٌّ يُحتفى به
سدير حسام كريم القيسي
كان الشعر العربي يومًا ديوان العرب ولسان حالهم، يتزين بالفصحى ويتفاخر ببيانه وبلاغته, أمّا اليوم فقد تغيّرت الملامح وتبدّلت الأصوات, فصعد الشعر الشعبي إلى الصدارة، وتراجع الشعر الفصيح إلى هوامش المشهد الثقافي، وكأن لسان العرب اختار أن يتحدّث باللهجات ويترك الفصحى وحيدة في انتظار من يعيد إليها بهاءها, فلا بد من الوقوف على بعض النقاط:
أولًا: قرب الشعر الشعبي من الوجدان اليومي
لعل أول ما يجعل الشعر الشعبي محبوبًا ومنتشرًا هو قربه من حياة الناس؛ إنه يُكتب بلغتهم اليومية، ويعبّر عن مشاعرهم ومواقفهم بلغة يفهمونها دون عناء, فحين يقول الشاعر الشعبي بيتًا بسيطًا باللهجة المحلية، يشعر السامع أن هذا البيت كُتب له، وأنه يشبهه ويعبر عنه، ويحمل همومه, وفي المقابل يبدو الشعر الفصيح رغم جماله وعمقه أقرب إلى اللغة المدرسية أو الخطاب الرسمي، وهو ما يجعله صعب الوصول لدى كثيرين خاصة ممن لم يتعمّقوا في دراسة اللغة أو تذوّق البلاغة.
ثانيًا: الإعلام يروّج للعامي ويغيب عن الفصيح
فلم يعد الشعر يُلقى في سوق عكاظ أو في مجالس الكبار؛ بل بات له منبر جديد هو الإعلام الحديث، من قنوات فضائية إلى منصات التواصل الاجتماعي, وهنا، حظي الشعر الشعبي بمساحة واسعة من العرض والدعم، من خلال برامج المسابقات، ومقاطع الفيديو القصيرة التي نقلت الشاعر الشعبي من الهامش إلى النجومية.
أمّا الشعر الفصيح، فغابت عنه الأضواء، وأصبح أسيرًا لمهرجانات محدودة، أو نشرات ثقافية لا تصل إلى عامة الناس, وهكذا، لم يختفِ الشعر الفصيح لأنه غير موجود بل؛ لأنه غير مرئي في العصر الذي تحكمه الصورة والصوت والسرعة.
ثالثًا: التحولات الاجتماعية وطبيعة العصر
في زمنٍ تُقاس فيه الأمور بالسرعة وسهولة التلقّي، بات الناس يميلون إلى ما يُقال بسرعة ويُفهم بسرعة. فالحياة الحديثة لا تترك مجالًا للتأمل الطويل أو للغوص في معاني مركبة، وهنا وجد الشعر الشعبي مكانه الطبيعي، بينما احتاج الشعر الفصيح إلى وقفة وفهم، وربما شرح وتأويل.
رابعًا: تراجع التعليم وضعف المؤسسة الثقافية
من أسباب انحسار الشعر الفصيح أيضًا، تراجع الاهتمام باللغة العربية في المؤسسات التعليمية، وضعف المناهج التي تربط الطالب بلغته من خلال الإبداع والتذوق, ولم يعد الطلاب يُدرّبون على حفظ المعلقات أو إنشاد القصائد كما كان يحدث في السابق، وغابت المسابقات المدرسية والأمسيات الأدبية، فانطفأت العلاقة العاطفية بين الجيل الجديد والفصحى.
خامسًا: هل هو صراع أم تنوّع؟
رغم كل ما سبق، لا ينبغي أن ننظر إلى الأمر كصراع بين العامي والفصيح، بل كتنوّع ثقافي طبيعي. فالشعر الشعبي يحمل روح الشارع وهموم الناس، ويستحق التقدير؛ لكنه لا يغني عن الشعر الفصيح الذي يحمل عبق التاريخ ومجد اللغة.
ما نحتاجه اليوم هو إعادة التوازن، لا بإلغاء أحدهما لصالح الآخر، بل بإحياء الشعر الفصيح بأساليب معاصرة، وربطه بالواقع دون أن يفقد عمقه، كما يمكن أن نجد جسورًا بين النوعين تُثري المشهد وتوسع أفق المتلقي.
وفي الختام
إنّ الشعر سواء أكان شعبيًا أم فصيحًا، يظل ابن بيئته وزمانه؛ لكن حين تتراجع الفصحى، فنحن لا نخسر شعرًا فحسب، بل نخسر صوتًا من أصوات الهوية العربية، ونفقد أداة تعبير كانت في يوم من الأيام لسان العرب ووجدانهم. فهل آن الأوان لنُعيد لهذا اللسان مكانته، ونصالح الجمال مع البيان؟