القصيدة الموجعة إلى وطن كريم بدر
وجيه عباس
عَتَباتُكَ الأحزانُ والإيلامُ
وسرابُ بابِكَ يقظةٌ وَمَنامُ
وَحِبالُ كفَّيكَ الأصابعُ تلتقي
عند الرقابِ كَأنَّهُنَّ لِجامُ
وَتُسَرُّ لو سقطتْ بظلِّكَ وارتمتْ
تلكَ الرؤوسُ بجنبِهِ والهامُ
وتكادُ تَشرِقُ بالدماءِ من الظما
فتزيدَها حتى تفيضَ الجامُ
وهواكَ ما احمرَّتْ هناك جِراحُنا
وكأنَّها في مُضغتيكَ غَرامُ
ويطيبُ لو عَزَفَتْ سياطُكَ في يدٍ
وعلى الظهورِ من الصدى أنغامُ
وَتَلُمُّ أيتاماً وأنت أَبوهُمُ
وَيُقالُ عنك أبٌ...و لا أيتامُ
طَحَنوا رغيفَكَ في الطُوى فأَجَعْتَهم
وَطَحنتَهُمْ في راحتيكَ... فناموا
*****
يامن أُسمِّيهِ البلادَ ووحشتي
أنَّ البلادَ بما تُحِلُّ حَرامُ
وَلأنتَ مَسجِدُها الضِرارُ ضلالةً
وَهُداكَ لا حِلٌّ ولا إحرامُ
قَدَرٌ ولستَ مشيئةً بقضائِها
ولقد يهونُ بسقطِهِ إتمامُ
دعني أُسمِّيكَ الغوايةَ ذاتَها
لو مرَّ عامٌ جاء بعدَكَ عامُ
تَتَقاطرُ السنواتُ فيكَ كأنَّما
أفنيتَها، وتساقطتْ أعوامُ
وأراكَ ترجعُ بالشبابِ نكايةً
وَتُعيدُ دورَتَها بك الأيّامُ
دعني أُسمّيكَ الهدايةَ وجهَها
لأريكَ ماذا يُبدعُ الرسّامُ!
لكنَّ وجهَكَ تستطيلُ غضونُهُ
فَتَفيضَ قُبحَكَ والوجوهُ وِسامُ
ولأنتَ فيكَ غوايةٌ وهدايةٌ
فانظر بأيِّهِما هناكَ تُلامُ؟
يا أنتَ من قامتْ قيامتُهُ بنا
زعماً وأنتَ على الجلود ضِرامُ
أَبدلتَهُم فيها الجلودَ بنارهِم
ليعودَ يضحكُ وجهُكَ البسّامُ
ولأنتَ ربٌّ ليسَ يعرفُ ربَّهُ
مذْ جئتَ فيه لتُعبدَ الأصنامُ!
ونقولُ فيكَ مشيئةً إنْ كنتَها
وعليكَ وحدَكَ وزرَها الآثامُ
فَبِمنْ تُقادَ ومنذ ألفٍ لم تزلْ
تَتَنزَّلُ البلوى وأنت تُسامُ
الحاكمون هُمُ وُجوهُكَ سلعةً
وَتَوحَّدتْ بضلالِكَ الأحكامُ
الوجهُ نفسُ الوجهِ لستَ تميزُهُ
فتراهُ لا خلفٌ ولا قُدّامُ
*****
يا أيُّها الحَمَأُ الذي من طينِهِ
منهُ خُلقْنا والترابُ ذِمامُ
وَلَنُدْفَنَنَّ بهِ، وَنُبعثُ مرَّةً
أخرى، فلا خوفٌ ولا إبرامُ
مابينَ مهدِكَ بينَ لحدِكَ غربةٌ
هِيَ نحنُ أو نحنُ الهُنا نستامُ
ربحٌ وكنتَ خسارةً، وخسارةٌ
الربحُ فيها ذِلَّةٌ وَمَلامُ
الشاهدُ الأعمى يقولُ ظنونَهُ
إلّاكَ أنتَ فشاهدٌ تمتامُ
يا واهباً لسواهُ عُميَ عيونِهِ
أبشرْ فُديتَ فكلُّنا خُدّامُ
من ذا يُقارِعُكَ البيانَ بأحرفٍ
وعلى نعالِكَ تسجدُ الأقدامُ؟!
وَبِأيِّ كَسْرٍ نستجيرُ وكلُّنا
صفرٌ فلا عَدٌّ ولا أرقامُ
ولأنتَ مقبرةُ الوجودِ بعالَمٍ
هُوَ قِبلةٌ لسواهُ حين يُقامُ
وأبو الحضاراتِ التي لم تستَقِمْ
إلّا وأنتَ على بنيكَ حُسامُ
السوطُ بين يديكَ يُجري أنهراً
بين الظهورِ لتستقي الآكامُ
ومدائناً خُلِقتْ بلوحِ ضلوعِنا
كي تستقيمَ حضارةٌ ونِظامُ
خُلِقَتْ لنا الدنيا وأنت سَلبتَها
عَجَباً فأين يسافرُ الأيتامُ؟!
*****
ياصاحبَ الراياتِ أمسُكَ مُشرقٌ
وَيُذادُ عنكَ وأنتَ لا تلتامُ
وأراك تُغري بالعَليِّ مَكارماً
وتلوذُ بالأدنى وأنت تُضامُ
وأراكَ توجِعُ بالقريبِ ذؤابةً
وَتَرِقُّ للغرباءِ حين تَغامُ
يا أيُّها الوجعُ القديمُ على الثرى
شابت بك الدنيا وأنتَ غُلامُ
وَكَأنْ تُعيدَ هناك دورَتك التي...
وكأنَّما تتناسلُ الآلامُ
هَبْنا من الطلقاءِ حين تَمدَّدتْ
فينا المراثي واستطالَ رُكامُ
اللافتاتُ السودُ رايتُكَ التي
كانت سماءً إذْ بنوكَ رُغامُ
إذْ يدفعونَ الضُرَّ عنكَ وأنتَ مَنْ
كانَ الضِرارَ لِمَنْ بوجدِكَ هاموا
يدنونَ منكَ وأنت أبعدُ شاخصٍ
عنهم وأنتَ القاتلُ المقدامُ
أعطيتَهم شبراً كأنَّكَ «حاتمٌ»
والجودُ قبرُكَ والثرى إكرامُ!
لاتكذبنِّي فالمقابرُ أُتخِمتْ
ولنا الشواهدُ فيكَ والأرقامُ
ولنا المدائنُ في التراب عريضةٌ
ولك المعاني فوقَهُنَّ تُقامُ
تسفي الرياحُ على القبورِ وتختفي
بينا مقامُكَ عِزَّةٌ وطُغامُ
*****
قِفْ حيثُ أنتَ فلا وراءَكَ أبحرٌ
ورمالُ ماتُمحي هناكَ أمامُ
وثيابُ فقري عُزلةٌ أمضيتَها
فلها بساحِكَ رايةٌ وخِيامُ
وحدي تُوزِّعُني الرياحُ، وبُردتي
رَحِمٌ عقيمٌ والظِلالُ عِظامُ
وعقاربُ الساعاتِ رُمْحٌ مُتْخَمٌ
رأسي عليهِ يُطافُ حيثُ أقاموا
وأصابعي تمتدُّ فيكَ كأنَّها
قَفَصٌ من الأضلاعِ لايلتامُ
إنِّي لأوقظُ في السؤالِ غرابتي
فإذا جواباتُ العيونِ نيامُ
وَأَفِرُّ من ظلّي فتتبعُني الخطى
يا أين أهربُ والرؤى نمّامُ؟!
نَبَحَتْ عليَّ كلابُهم فرددتُها
ليعودَ يَقدِمُهُم بها الشتّامُ
يتقافزون كما القرودُ وحسبُهُمْ
شَجَري عليه تقافزَ العُوّامُ
وأرى الوجوهَ غريبةً لكنَّهُمْ
أهلي بها الأخوالُ والأعمامُ
يَتَفرَّقونَ مذاهباً وكَأنَّهم
مما جنيتَ على الورى أعجامُ
هذي الأضاحي بين كفِّكَ تخمةٌ
أنتَ البطينُ وهُمْ هناك إدامُ
وَأَجَعْتَهم فيها ويالَكَ مَوْطِناً
كَتَبَ الصيامَ على بنيهِ فصاموا
وكأنَّهُ اختصرَ الحياةَ بأنَّهُم
قَعَدوا وقاموا في الترابِ وناموا
*****
يا أيُّها الوطنيُّ ليسَ كمثلِهِ
وَطَنٌ يشابِهُهُ ولا الأقوامُ
مُتَجَسِّمٌ للناسِ ملء عيونِهِ
فالرأسُ فيهِ إمامةٌ وإمامُ
ويداهُ تحصدُ بالرؤوسِ، وغرسُهُ
تسقيهِ من دمِها بهِ الأرحامُ
رجلاهُ قائمتان فوق صدورِهم
ونعالُهُ فوق الوجوهِ تنامُ
قَدَرٌ بأنْ كنتَ الأخيرَ مَواطِناً
وعلى يديهِ للطغاةِ مَقامُ
يلدُ الطغاةَ على الطغاةِ بحسبِهِ
وَكَأنَّهُ مابينهم قسّامُ
وَكَأنَّهُ جعلَ الشعوبَ ذليلةً
إلاهُ فَهْوَ الواحدُ العَلّامُ
وَطَنٌ ويفجرُ بالعفيفِ وإنَّهُ
الإسلامُ!، لا مايدَّعي الإسلامُ
لولا محمَّدُ لادَّعى بنبوَّةٍ
ولقالَ إنَّ إمامَكم حاخامُ
فاضتْ عروبتُهُ علينا غيمةً
فَتَعَمْلَقَتْ بثيابنا الأورامُ
وَتَوزَّعتنا رِدَّةٌ وكَأنَّنا
فيما نُقادُ كَأَنَّنا أغنامُ!
*****
وطني اعتزلتُكَ في الحياةِ لأنَّني
فيك الغريبُ وماسواكَ يُلامُ
آمنتني فَفَزِعتُ منكَ مَخافةً
أن يجتبيني القتلُ والإعدامُ
ودفعتُ عن أهليك سوءَ مَظنَّةٍ
أهلوك فيها العميُ حيث أساموا
لكنَّني جوزيتُ شرَّ ندامةٍ
فيها رجعتُ وصارمي أثلامُ
مابي عقوقٌ غيرَ أنَّكَ كثرةٌ
لكنَّ قلَّتَهُ هناك ضِخامُ
ملءُ الفراغِ وجودُهُ لكنَّهُ
قزمٌ عليه تطاولَ الأقزامُ
أنا فيكَ لوكنتُ الغريبَ تَمَحُّلٌ
ضنَّتْ عليهِ بحبرِها الأقلامُ
وَلَكنتُ ملءَ السمعِ في جَنَباتِهِ
بيروتُ فيكَ تقولُني والشامُ
سَأَقولُ أنَّكَ لم تلدني إنَّني
وحياةِ عينِكَ خاتَمٌ وخِتامُ
هل يستطيلُ الوردُ بين خرائبٍ
وَدَمٌ سقاؤُكَ والثيابُ أنامُ
أفردتني وأنا الكثيرُ فمن يدي
هذي الخرائدُ في يديك رُخامُ
أوسعتَها لثماً عليكَ وإنَّني
أدري بأنَّكَ دونهنَّ لِثامُ
العبقريَّةُ فيكَ وهمٌ زائفٌ
والشاعريَّةُ دونها نظّامُ
عيناك جاريتان بين نحورِنا
لا نوحَ دون سفينِهِ يَعتامُ
أنا لستُ منكَ ولستُ فيكَ معاتباً
إنَّ العتابَ تَودُّدٌ وهُيامُ
جمراتُك اللاتي عميتَ بها الرؤى
تلك العيونُ صليبُها القوّامُ
ويداي جنحا طائرٍ، ووجدتُها
كِسَراً كما تتساقطُ الأعلامُ
*****
أَنا إنْ أردتُ الشعرَ يُقبلُ هادرا!
فإذا القوافي جمرة وسِهامُ
فيها أُصيبُ مقاتلاً لكنَّني
سِلْمٌ اذا استعلتْ بها وَسَلامُ
وإذا دنوتُ تَذلَّلت أعنابُها
فإذا الكؤوسُ المُترعاتُ مَدامُ
وَلَئِن غزلتُ يكادُ ينسجُ ثوبَهُ
في منكبيَّ الدفءُ والإلهامُ
فإذا خطوتُ يسيل تحت ترابِهِ
هذا الإهابُ ووقعُهُ العوّامُ
لكنَّني وحقيقِ ظلمِكَ عازفٌ
عما ينيلُ الشعرُ والأوهامُ
ولأنَّني عفُّ الضميرِ وذي يدي
ذاتُ اليمين وجودُها إنعامُ
أذللتُ نفسي للفقيرِ تأسِّياً
وخلافُهُ حتمٌ عليَّ لِزامُ
لم اتَّضعْ لسواي لا مُتَكبِّراً
لكنَّما العَلَويُّ لا يستامُ
هي مهجةٌ رضعتْ تلاوةَ فاطمٍ
للآن لم يُبلغْ هناك فِطامُ