الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الولاء للوطن يفرض رؤية الحقائق مجرّدة

بواسطة azzaman

ذاكرة الظلال.. ديمقراطية الرافدين   (1)

الولاء للوطن يفرض رؤية الحقائق مجرّدة

 

كاظم نزار الركابي

 

ما بين دبابات 2003 وإختبار الديمقراطية

في صباح الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، وقفت البلاد مرة أخرى أمام المرآة. صندوق الاقتراع ليس آلية، إنما هو لحظة كاشفة لمدى تغير الملامح، أو ثباتها.

الأرقام الأولية: نسبة المشاركة 56 بالمئة ، وهي أفضل من المتوقع، وائتلاف الإعمار والتنمية الذي يقوده رئيس الوزراء يتصدر المشهد. لكن الرقم الأهم كان غائباً عن العناوين: لا يوجد فائز مطلق. لا توجد أغلبية حاسمة.

وهذا يعني أن الحكم في عراق 2025، كما في كل مرة سابقة، لن يولد من برنامج انتخابي، وإنما من غرفة مساومات خلفية.

على الورق، تبدو قصة نجاح: ست دورات انتخابية، دستور دائم، تداول سلمي (ولو شكلي) للسلطة. لكن خلف هذا المشهد المنضبط، يختبئ سؤال عنيد: هل نختبر ديمقراطية حقيقية، أم نعيش في ديمقراطية تحت الاختبار ... منذ عشرين سنة، ولم تظهر النتيجة؟

كسر دولة

بالعودة إلى لحظة الصفر. نجد أن ما حدث في ربيع 2003، لم يكن تغييراً، كان كسراً. الدولة القديمة، كُسرت بضربة واحدة. جيش مُحتل يملأ الفراغ، وأجهزة أمن مُنهكة تتلاشى، وبلد يُعاد ترتيبه بـأوامر سلطة الائتلاف المؤقتة.

في 2005، وُلد العقد (الدستور). الذي كُتب على عَجَل، تحت ضغط الزمن لا التاريخ. حَمَل وعوداً كبرى: الفيدرالية، التعددية، الحقوق. لكنه، بوعي أو من دونه، ثبّت المعادلة المستحيلة التي نعيشها اليوم: سيادة مجزّأة. بغداد تمتلك البعض الرسمي، وأربيل تملك الورقة (النفط والحدود)، وآخرون يسعون لإقتناص القرار بالسلاح والمال.

صناديق 2005 و2010 لم تمنح العراقيين الأمان الموعود. لكن منحتهم صراعاً مُقنّناً. انزلقت البلاد إلى حرب أهلية باردة، وحين اشتدت، تحولت إلى جدران كونكريتية تفصل بين جيران الأمس. الاقتراع جرى على حافة القلق الوجودي.

في 2014 جاء الامتحان الأعظم. داعش يبتلع الموصل، وثلث الجغرافيا العراقية. هنا، لم يكن السؤال من يحكم؟، وإنما هل ستبقى دولة ليحكمها أحد؟.

طرح داعش سؤالاً قاسياً: من يملك الشرعية اليوم؟ هل هو الصندوق الذي فشل في حماية الناس، أم البندقية التي تمنع سقوط المدن؟

من قلب تلك النار، خرج لاعب ثالث، أو رابع. فصائل مسلحة قالت إنها أنقذت الدولة، وطالبت، منطقياً، بـحصة دائمة في القرار والثروة.

هنا، وُلد هجين، هذا الهجين هو ما يمكن أن نسميه ديمقراطية الظِّلال.

إنه النظام الذي نعيش فيه اليوم. ديمقراطية تجري في الضوء (صناديق، برلمان، إعلام، حكومة)، لكن القرار الحقيقي يُتخذ في الظِّلال.

ديمقراطية الظِّلال هذه لها قواعدها الخاصة:

صوت في الضوء: ناخب يدخل وحيداً إلى المعزل، لكنه يخرج إلى خارطة رُسمت خطوطها في مكان آخر.

رقم يُحتسب: صوت يُحتسب رقمياً بـ دقة، لكنه يذوب لاحقاً في تفاهمات بين الكارتل السياسي واقتصاد الولاء والنفوذ الموازي.

شرعية مزدوجة: شرعية الصندوق، وشرعية البندقية.

في 2019، حدث ما لم يكن في الحسبان. الشارع حول الظل إلى ضوء. شباب تشرين، بلا راعٍ حزبي أو مرجعية تقليدية، ملأوا الساحات بشعار واحد: هذه الدولة تُدار كغنيمة، لا كوطن.

هذا الشعار الذي يمثل الرفض البنيوي لديمقراطية الظلال انطلق من تظاهرات حاشدة، انطلقت تحت الشمس، لكن، كما وثّقت الأمم المتحدة والعفو الدولية، كانت الظلال عنيفة. قمع، قتل، واختطاف. ورسالة واضحة: الضوء لكم، لكن الظل لنا.

تحت ضغط الشارع، تم تحديث الصندوق. قانون جديد، دوائر صغيرة، انتخابات مبكرة (2021). مراقبو الاتحاد الأوروبي سجلوا تحسناً فنياً، لكنهم أشاروا بوضوح إلى سوء استخدام النفوذ والمال... تصدعت القلعة، لكنها لم تتهدم.

بين 2021 و2025، جرت التسوية... حكومة السوداني كانت نتاج الهجين الديمقراطي. تسوية داخل الظل الشيعي، قادت إلى تسوية مع ظلال الشركاء.

السماء منحت هذه الحكومة هدية: ارتفاع أسعار النفط. هذا الهامش المالي سمح للسوداني بتقديم سردية جديدة: سردية الاستقرار والإعمار. لقد حوّل الخدمة (التي هي واجب) إلى مشروع (الإعمار والتنمية).

في الخلفية، كان العالم يرسل رسالته الخاصة. مجلس الأمن، بقراره إنهاء يونامي بنهاية 2025، لم يكن يمزح. كانت رسالة واضحة: انتهى رفع الغطاء الأممي. من الآن فصاعداً، أنتم وحدكم في القاعة. عليكم أن تختبروا أنفسكم، وأن تواجهوا ظلالكم بأنفسكم.

انتخابات 2025 جرت في هذا المناخ المزدوج: حكومة تقدم سردية الإعمار في الضوء، وتيار صدري يقاطع في صمت ثقيل، ومجتمع لم يلتئم جرح تشرين به، وظل إقليمي مضطرب يراقب.

بعد عشرين عاماً، العراق ليس ديكتاتورية تُساق بالعصا. ولكنه ما صار ديمقراطيًا يُحتكم إلى العقد.

إنه يقف في منطقة وسطى، خطرة وهشة. دولة تتقن فن البقاء أكثر مما تتقن فن الحكم.

انتخابات 2025، بهذا المعنى، لا تُغلق الذاكرة. إنها تضع عنوان المرحلة القادمة بوضوح: ديمقراطية الظِّلال... تحت اختبار رفع الغطاء الدولي.

 


مشاهدات 51
الكاتب كاظم نزار الركابي
أضيف 2025/12/19 - 10:57 PM
آخر تحديث 2025/12/20 - 12:21 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 30 الشهر 14373 الكلي 12998278
الوقت الآن
السبت 2025/12/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير