حسن النواب
بين حين وآخر أمنحُ وقتاً لإدامة سيارتي ومركبة زوجتي برغم أنَّ الشوارع في أستراليا معبَّدة حتى أبعد نقطة من الصحراء ، كما أنَّ الغبار معدوم تماماً، فطيلة إقامتي التي تجاوزت الثلاثة وعشرين عاماً؛ لم أر زوبعة غبار واحدة في سماء قارة الكناغر؛ نتيجة الغابات الساحرة التي تطوِّق المدن وتُسمَّى الحزام الأخضر، ولذا تكون إدامتي مقتصرة على معرفة مستوى الزيت والماء في المركبتين، وتنظيف البخاخات من تراكم الدهون عليها، ولقد اكتسبت هذه المعرفة بإدامة العجلات من حياتي العسكرية؛ لما كنت سائق دبابة لمدة عشر سنوات في حربين عبثيتين، إذْ كنّا نقوم بإدامة الدبابة ثلاث مرات في الأسبوع، والواقع كلما بدأت بالإدامة على المركبتين؛ تستفيقُ ذاكرتي على دبابتي التي قدتها في جبهات قواطع الشوش والخفاجية والطاهري والفاو والشيب الفكّة و شرق البصرة ويا لها من سنوات قاسية ومريرة، في إدامتي الأخيرة قبل يومين لمركبة «أم الجهال» اضطررت إلى خلع خاتم الأوبال الثمين من بنصري حتى تصل يدي بيسرٍ الى قاع محرك المركبة لتنظيفه من الترسبات، ولما انتهيت من مهمة الإدامة بنجاح تفقَّدتُ خاتمي فلم أجد له أي أثر، كما أني لا اتذكر أين وضعته بسبب سرحاني المستمر؛ دعوتُ أفراد العائلة للتفتيش معي عن الخاتم في الباحة الأمامية وحتى داخل المنزل، بينما صاحبكم «الفيترجي» صرف وقتاً طويلاً بحثاً عن الخاتم في حوض محرك السيارة، وكانت النتيجة أنَّ الجميع فشل بالعثور على ذلك الخاتم الذي أعتزُّ به كثيراً؛ فهو تعويذتي التي آمنتُ بها؛ من خلال حجره البديع الذي يشعُّ بألوان الطيف الشمسي ويدفع عني الأخطار والهموم والمنغصات والحسد مذْ وطأت قدمي هذه القارة الآمنة. إدلهمَّ وجهي وبان الحزن فاضحاً على ملامحي وضاق صدري ولم أتناول طعامي في ذلك اليوم، وتذكرتُ رجلاً عجوزاً التقيتهُ ذات صيف وقبل أكثر من أربعين عاماً في إحدى مقاهي مدينة كربلاء؛ قد أخبرني أنَّ بعض الخواتم تهرب من صاحبها دون علمه؛ إذا ما عادت تجدي نفعاً أو أنَّ الذي يقتنيها لا تناسبهُ فتهرب بحثاً عن أصابع لدى إنسان آخر، وبرغم فنطازية هذا الكلام؛ لكني بدأت اقتنع به؛ وإلاّ أين اختفى خاتم الأوبال الذي اشتريتهُ بثمن محترم؛ وهو الحجر المناسب لبرجي العقرب. لما جُنَّ الليل داهمتني الكوابيس تباعاً، ما أنْ ينتهي كابوس حتى يبدأ آخر، لكنَّ الكابوس الأكثر رعباً؛ عندما رأيت جسدي محاطاً بآلاف شفرات الحلاقة وقد بدأتْ بسلخ جلدي على مهل متلذذة بنزيف الدم؛ بينما كنت أصرخ مهتاجاً من الألم العظيم، حين أفقتُ على صوت طائر الكوكوبارا الذي يعزف سمفونيته المغرّدة كل فجر وعند كل غروب إيذاناً بقدوم وغروب النور الإلهي، كان العرق قد غزا جسدي، وأيقنتُ أنََّ خاتم الأوبال فقدتهُ إلى الأبد. هذا الفقدان الأليم جرجرني إلى فقدانات أكثر إيلاماً تحدث في أصقاع العالم وفي وطني كل ساعة، فهناك العائلة التي فقدت رب أسرتها بحادث مؤسف؛ وهناك العائلة التي انقطعت عنها أخبار ولدها المعتقل من قبل جهة مجهولة، وهناك الذي اختطف من باب داره؛ والذي فارق الحياة حرقاً أو غرقاً، وهناك الجندي الذي ذهب الى صحراء الرمادي ولم يعد حتى الآن، وهناك الذي يفقد منزله نتيجة مطر مدرار أو فيضان أو قصف أو زلزال، وتذكَّرتُ زحام العوائل المفزوعة عند سيطرة المشرَّح في قاطع العمارة؛ والتي جاءت من جميع المدن العراقية والقصبات بحثاً عن أبنائها الذين يخوضون معركة دامية في جبهة الشيب، أملاً بالحصول عن خبرٍ يطفىء غابات الجمر المشتعلة في قلوبهم، مثلما يجري الآن من زحام للعوائل في غزَّه والذين هرعوا من كل فج عميق والعبرات تختلطُ مع هتافاتهم وهم يستقبلون أبناءهم الأسرى الذين أطلقَ سراحهم من معتقلات إسرائيل؛ وتذكَّرتُ واقعة أليمة حدثت في كربلاء منتصف السبعينيات؛ وما جرى لذلك الأب الموغل بالحزن والألم والذي كان يعمل بعربة جوالة يبيع الحلوى والكرزات، عندما فقد أبنه الوحيد بعمر خمسة أعوام، وجُنَّ جنونه ولم يترك شارعاً أو زقاقاً في المدينة المقدسة لم يعلق على جدرانه صورة صغيره المفقود، وقد كلَّفهُ طبع تلك الصور ما في حوزته من مال، وظلَّ يراهن على عودة ابنه بطبعه لمزيد من الصور ونشرها حتى في القرى النائية، بعد مضي شهور شحب وجه الأب؛ وما عاد يقوى على المشي لخطواتٍ حتى سقط صريعاً أمام قبلة باب الحسين ع، بعد أيام سمعنا أنَّ صغيره الوحيد عُثر عليه في أحد احياء بغداد الشعبية؛ وكان برعاية امرأة عاقر اختطفته حتى تبدِّد وحشتها ولوعتها، ويبقى الفقدان وجعاً لا يستكين؛ فالموت نتيجة حتمية للجميع وسرعان ما ننسى الذي توفَّى وتأخذنا الحياة بإغواءاتها، والسجين هناك أملاً بإطلاق سراحه، والغريب مثلي سيعود يوماً ويلثم عتبة باب دار أهله ويمرِّغ وجهه بثرى الوطن، لكن المفقود لارجاء منهُ؛ سوى مزيداً من الألم والأحزان المريرة، وحتى الفقدان لهُ درجات بالوجع والمكابدة؛ لكن أقسى فقدان على الإنسان؛ هو ضياع الوطن .