مصانع العقول (4)
الجامعات التي تغير العالم
محمد الربيعي
ما الذي يميز جامعة هارفارد حقا؟ هل هي مجرد صرح اكاديمي عريق، ام انها بوتقة تنصهر فيها المواهب وتصقل، لتخرج لنا قادة ومبدعين؟ في بواكير حياتي الاكاديمية، رافقت استاذي الراحل البروفسور فخري البزاز، الذي كان يشغل كرسي التطور البيولوجي في جامعة هارفارد، في زيارة لا تنسى لقسمه. لم تكن مجرد جولة في اروقة الجامعة، بل كانت رحلة في تاريخ العلم، حي اشار البروفسور بفخر الى مكاتب مجاورة لمكتبه، مكاتب كان يعمل فيها عمالقة حازوا على جوائز نوبل، امثال جيمس واتسون وتوماس ولر وفرتز ليبمان وكونارد بلوخ. لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد، لم يكن مجرد وجود هؤلاء العلماء الافذاذ في مكان واحد هو ما اثار دهشتي، بل كان الجو العام، ثقافة البحث المستمر، والايمان الراسخ بقوة الاكتشاف، هو ما يلهم ويحول. قصة فرتز ليبمان، الذي تحول من شخص محبط يكاد يفقد الامل الى عالم ملهم بفضل هارفارد، خير دليل على هذه القوة التحويلية. ليست العبقرية الفردية وحدها ما يصنع علماء نوبل، بل البيئة الحاضنة التي تنمي هذه العبقرية وتطلق العنان لها. هذه القوة التحويلية، هذه الثقافة الفريدة، هي ما ساكشفه في هذه المقالة.
مؤسسة تعليم
تتميز جامعة هارفارد بتاريخها العريق وسمعتها المرموقة، فهي اقدم مؤسسة تعليم عال في الولايات المتحدة، حيث تاسست عام 1636. اكتسبت الجامعة شهرة عالمية بفضل تفوقها الاكاديمي واسهاماتها البحثية التي غيرت مسار التاريخ في العديد من المجالات. تقدم هارفارد برامج اكاديمية متنوعة وشاملة في مختلف المجالات، بدءا من العلوم الانسانية والاجتماعية، مرورا بالعلوم الطبيعية والهندسة، وصولا الى الطب والقانون والاعمال. تتميز هذه البرامج بجودتها العالية وصرامتها الاكاديمية، مما يضمن حصول الطلاب على تعليم متميز يعدهم ليصبحوا قادة في مجتمعاتهم.
تضم الجامعة نخبة من اعضاء هيئة التدريس المشهورين عالميا في مجالات تخصصهم، والذين يعتبرون قادة في مجالاتهم. يثري هؤلاء الاساتذة الحياة الاكاديمية للطلاب بخبرتهم ومعرفتهم وشغفهم بالتدريس والبحث، ويلهمونهم للتفكير النقدي والابداع. تمتلك هارفارد موارد ومرافق متطورة تدعم العملية التعليمية والبحثية على اعلى المستويات، بما في ذلك المكتبات الضخمة، وعلى راسها مكتبة هارفارد التي تعتبر اكبر مكتبة اكاديمية في العالم، حيث تضم ملايين الكتب والمخطوطات والمواد الاخرى. بالاضافة الى ذلك، تضم الجامعة مختبرات حديثة ومتاحف ومعارض ومراكز بحثية مجهزة باحدث التقنيات.
تعرف هارفارد بتركيزها القوي على البحث العلمي، حيث تجرى فيها ابحاث رائدة في مختلف المجالات، بدءا من الفيزياء الفلكية وصولا الى علوم الاحياء والطب. يساهم الطلاب واعضاء هيئة التدريس في هذه الابحاث، مما يثري المعرفة الانسانية ويساهم في حل المشكلات العالمية. تخرج من هارفارد العديد من الشخصيات البارزة في مختلف المجالات، منهم رؤساء دول وحائزون على جائزة نوبل ورجال اعمال وقادة في المجتمع. يعتبر الانتماء الى شبكة خريجي هارفارد ميزة كبيرة للخريجين، حيث توفر لهم فرصا للتواصل والتعاون مع نخبة من الخريجين حول العالم.
بحث علمي
تتمتع الجامعة بميزانية ضخمة تستخدم في دعم التعليم والبحث وتطوير المرافق وتقديم المنح الدراسية للطلاب، مما يمكن الجامعة من استقطاب افضل الكفاءات من الطلاب والباحثين واعضاء هيئة التدريس، وتوفير بيئة تعليمية وبحثية مثالية. باختصار، تعتبر هارفارد من افضل الجامعات في العالم بفضل تاريخها العريق وبرامجها الاكاديمية المتميزة واعضاء هيئة التدريس المرموقين والموارد المتطورة والتركيز على البحث العلمي والخريجين المتميزين والميزانية الضخمة. هذه العوامل مجتمعة تجعل من هارفارد وجهة مثالية للطلاب الذين يسعون الى الحصول على تعليم عالي الجودة والمساهمة في بناء مستقبل افضل.
اضافة الى ذلك، تعتبر جامعة هارفارد من الجامعات الكبيرة نسبيا، حيث يتجاوز عدد طلابها 20,000 طالب، ويعتبر برنامجا الطب وادارة الاعمال من بين افضل البرامج المماثلة في الجامعات الامريكية. تخرج من هارفارد 8 رؤساء امريكيين، من بينهم فرانكلين روزفلت وجون كينيدي، ويرتبط بها اكثر من 160 من الحائزين على جائزة نوبل كخريجين او اعضاء هيئة تدريس او باحثين. هذا علما ان عدد من العراقيين قد حصلوا علىى شهاداتهم من هارفارد من بينهم احمد الجلبي في الرياضيات وعلي عبد الامير علاوي في الاقتصاد وفؤاد حسين في العلوم السياسية.
تكمن قوة هارفارد الاساسية في قدراتها المادية، فهي تمتلك اكبر الاوقاف المالية في العالم، وبلغ إجمالي إيرادات جامعة هارفارد 6.5 مليار دولار في السنة المالية 2023. اما غاية الجامعة فهي ببساطة «انتاج المعرفة وفتح اذهان الطلاب على هذه المعرفة وتمكينهم من الاستفادة القصوى من الفرص التربوية». ولتحقيق هذه الغاية، تشجع الجامعة الطلاب على احترام الراي المغاير والافكار الجديدة، وعلى التعبير الحر والتفكير النقدي، والسعي لتحقيق التفوق من خلال روح عالية من التعاون المثمر، كما تشجع طلابها على تحمل المسؤولية والمشاركة الجماعية واكتشاف قدراتهم وتطويرها، كل هذا من اجل تكوين اشخاص لهم قدرات الاكتشاف والقيادة والتحدي والتخليق.
اكتشافات هامة ساهمت بها هارفارد:
- تطوير لقاح شلل الاطفال: ساهم جون اندرز وزملاؤه في كلية الطب بجامعة هارفارد في تطوير لقاح شلل الاطفال في الخمسينيات من القرن الماضي، مما انقذ حياة الملايين حول العالم.
- أبحاث في مجال الجينات: اكتشاف كريغ فنتر وجون كريج فنتر للجينوم البشري في التسعينيات، حيث ساهم هذا العمل في تقدم علم الجينات بشكل كبير.
- تطوير الإنترنت: تيم بيرنرز-لي، الذي عمل في جامعة هارفارد، هو مُخترع شبكة الويب العالمية (الإنترنت) في أواخر الثمانينيات، والتي غيرت العالم بأسره.
- ابحاث رائدة في مجال علم النفس: اجرى باحثون في هارفارد ابحاثا رائدة في مجال علم النفس، ساهمت في فهمنا للسلوك البشري والادراك والعواطف. من بين هؤلاء الباحثين ويليام جيمس، الذي يعتبر اب علم النفس الامريكي.
- تطوير اول حاسوب رقمي: ساهم هوارد ايكن وفريقه في جامعة هارفارد في تطوير اول حاسوب رقمي واسع النطاق، وهو «مارك 1»، خلال الحرب العالمية الثانية، مما وضع الاساس لعصر الحوسبة الحديث.
- ابحاث في مجال الفيزياء الفلكية: يجري باحثون في مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية التابع لجامعة هارفارد ابحاثا رائدة في مجال الفيزياء الفلكية وعلم الكون، ساهمت في فهمنا للكون وتطوره.
هذه مجرد امثلة قليلة من الاكتشافات والاسهامات الهامة التي قدمتها جامعة هارفارد للبشرية. يوضح هذا التاريخ الغني من الانجازات سبب اعتبار هارفارد واحدة من افضل الجامعات في العالم.
بروفسور ومستشار دولي، جامعة دبلن