الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ليلة في مدينة الاموات

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

ليلة في مدينة الاموات

فاضل الفتلاوي

 

اخيرا وصلت السيارة المتهالكة الى محطتها الأخيرة ونوعا ما هدأ الصراخ، توقف السائق عندما طلب منه الشيخ المسن الذي يجلس بجانبه ذلك، كان وقوفه قرب مطعم اشتهر بتقديمه  الكباب الفاخر، فتح الباب الخلفي لتنزل امرأة مسنة لازالت مسحة من جمال قديم تبدو آثارها جلية على الجسد الممشوق نزلت بتأن ومن الباب الأخر ترجل رجل يرتدي ملابس ريفية سرعان ماراح يبحلق في نحو الصندوق الطويل المستطيل المغطى بقماش اخضر مطرز بسور من القرآن وادعية خاصة بالموتى، عبرت الشارع المكسو بمايشبه مادة الاسفلت وصياح عمال المطاعم ازدادت وتيرته وهم يدعون الزبائن واقفين تحت يافطة كبيرة براقة فيها رسوم لطباخين بقبعات طويلة بيضاء  وسكاكين وسواطير واخرين يقدمون وجبات سريعة زبائنهم منشغلين بقضم سندويشات مترعة بالفلافل والكجب والمقبلات،  دخل الاربعة الى صالة المطعم وما ان استقر بهم الجلوس حتى راحت عيونهم تتلصص نحو النعش المسجى فوق السيارة، المارة في الشارع يرفعون ايديهم تحية للميت واخرين راحوا يطاطاون رؤوسهم دون علمهم بجنسه ولكنهم علموا من خلال تجاربهم في مثل هكذا حالات انه ميت عادي ولم يسقط في ساحات القتال فأستنتج الكثير منهم إنها امرأة، على الطاولة كانت عينا المرأة لاتنفك تنظر الى عيني رفيقها الشيخ وبين الفينة والاخرى تتساقط دموعها والصمت سيد الموقف، السائق جلس على طاولة اخرى وراح ياكل بشراهة لأن الأمر لايعنيه البته فهو سائق سيارة اجره، بعد الانتهاء من الفطور انطلقت السيارة في شوارع ضيقة لتبان بعد دقائق القباب المذهبة وطوابير من الناس تحث الخطى للدخول للدخول للمرقد المقدس،  توقف السائق على بضع امتار من المشهد حيث هرع رجال مختصين بحمل النعوش وقد غطوا رؤوسهم بطاقيات مغلقة بالاسفج وبسرعة حملوا النعش وهم يسابقون الريح يسير امامهم شيخ وقد ارتدى طربوش بلونين احمر واخضر وهو يتلوا ادعية وجمع من المشيعين من اهل المدينة يرددون وراءه،  عند الوصول لباب الضريح خلع الجميع احذيتهم ودخلوا وبعد دورتين او ثلاثة انزل الصندوق وراحوا يصلون صلاة الميت،  عاد الرجال بالنعش مرة اخرى، اصعدوه الى سطح السيارة واثقوه بالحبال ، تسلموا اجورهم وركضوا نحو جنازة اخرى وصلت للتو

..................................

يبدو ان الجو الايماني والزهد وسماع الادعية قد خفف من وطئ الصدمة قليلا واحاديث دارت بين الجميع وهم متجهين نحو محطتهم ومحطة الميت الأخيرة مقبرة وادي السلام حيث راح السائق يحدثهم عن عاقبة الزاهدين الصابرين وكيف ستكون وقفتهم خفيفة يوم الحشر العظيم، السيدة كانت تهز راسها موافقة والشيخ ماانفك ينفث الدخان من سجائره واحدة تلو الاخرى

شريط ذكريات سريع راح يدور في رأسها، تذكرت مخاضها بها اصابتها هستيرية وسط الصمت ابنتها لم تسلخ العشرين وهاي جثة هامدة في صندوق خشب فوق سيارة، تذكرت يومها الاول في المدرسةوجدائلها الشقر ، هي البنت الوحيدة ولادتها خرافة في سن الياس، صرخت بقوة اجفلت الجميع

- نادية حبيبتي كيف تحمل جسدك الغض كل تلك الرصاصات، شاركها العجوز الصراخ والعم والسائق سالت دموعها دون ادنى شعور؛  راح السائق يحدثهم عن المدينة التي سيصلونها مدينة الاموات المترامية الاطراف والتي زارها مرارا كسائق أجرة مصطحبا جنائز كثيرة وحدثهم عن يوم عندما شاهد المدينة التي تقع في واد عميق من طابق علوي في فندق يطل عليها بصحبة صديق له من المدينة المتاخمة(النجف) كان صديقه يلح عليه للمبيت عنده وهو متعجل للعودة لمدينته ولكن امرا جعله يغير رأيه ويقرر المبيت تلك الليلة،  تسائلت المرأة عن السبب ؟

قال: كنت انظر من نافذة الفندق الى قبور تمتد لمئات الكيلومترات وقد اصبت بالدهشة والعجب وتغيرت سحنتي، هنا ربت صاحبي على كتفي وكأنه ابقظني من حلم

-اتعلم ياصديقي إن اغلب سكان القبور كانوا دائما في عجلة من امرهم لكنهم ارغموا على دخولها ولم تنتهي اعمالهم

- صدقت يااخي لاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم

اومأ الجميع برؤوسهم مؤيدين ماقاله وهدات الامور قليلا داخل السيارة

وراح السائق يحدثهم عن المقبرة التي تقع في واد طويل امتداده يصل الى حدود منخفض الجزيرة العربية المسمى بحفر الباطن وكيف كان في الزمن الغابر كان الوادي عبارة عن بحر هائل متلاطم الأمواج تصله السفن التجارية من الهند والصين وبلدان كثيرة ولسبب ما جف ذاك البحر العظيم واستحال الى صحراء مترامية الاطراف لم تعرف المدنية والعمران حتى دفن فيها الامام علي بن ابي طالب

..............................

استدارت السيارة لتلج في شارع ضيق يتسع بالكاد لسيارة واحدة، المدينة ساكنه تماما والحياة فيها مجرد صبيان يتسلقون القبور برشاقة وهم يتبعون الزائرين عارضين بضاعتهم من البخور وماء الورد وسورة ياسين وثمة رجال بطيلسانات رجال الدين يعرضون خدماتهم لقراءة الادعية والترحم على الاموات وهم كمن يدخل وليمة غير مدعو اليها فقبل السؤال يقرأون ويترحمون ويطالبون بأجر كبير وطالما حدثت مشادات بينهم وبين الزائرين تنتهي اغلبها بالتراضي عندما يقرأ احدهم على القبر(خذوه فغلوه وسلسلة طولها سبعون ذراعا ) فيضطر الجميع الدفع مرغمين خوفا من النار والسلاسل

...................................

يبدو إن عامل الحفر لم ينتهي من عمله عندما وصل النعش لمدفن العائلة، هيئته مخيفة بوجه اسود شاحب واضعا خرقة عتيقة حول رأسه لايعرف منها اي لون ومسؤول المقبرة يلح عليه وهو يشكوا من السن الصخري الذي هو عبارة عن حجر كلسي متصلب لايمكن معالجته إلا بادوات الحفر الميكانيكية،  بعد ساعة او اكثر انتهى كل شيئ وانزل النعش من السيارة وسط العويل والنواح، دخل الدفان القبر ناوله مساعده الجثمان فادخله في اللحد وراح يقرأ بصوت عال ادعية وراح يحدث الميت

- اذا جاءك الملكان الصالحان فقل لهما.................الخ،  بضع طابوقات سدت اللحد،   رشت التربة بالماء وماء الورد، غادر الجميع وقد بدأ الليل يرخي سدوله على المدينة الموحشة وعدد من النسوة يسمع نواحن بوضوح ورجال توشحوا بالاسود ودعاء عال للملقنين يسمع وسط الرهبة والسكون الموحش

قبل عودة السيارة لاحظت السيدة نسقا من القبور الحديثة..... هالها المنظر ثلاث شقيقات في ريعان الشباب ووالديهم قضوا في حادث سير وصور الفتيات تحفز الدموع للجريان راحت تنوح وتصرخ بهستيريا والسائق يردد من رأى مصائب الآخرين هانت عليه مصيبته ، صاحت المرأة: نعم وراحت تردد: يارب انت  العدل ومنك العدل ولكن يارباه أليس من العدل ان يدفنونا ابنائنا وليس العكس ؟ استغفرك اللهم قدرت كل شيئ تقديرا

اغرقت القبور بماء الورد واشعلت اخر ماتبقى عندها من اعواد البخور، رويدا رويدا عم السكون التام ، انطلقت السيارة وسط الشوارع الضيقة ولاحت المدينة بعد دقائق، الجميع صامتون وعلى حين غرة صرخت المرأة وراحت تلطم صدرها وهي تشير لزوجها المذهول

- فتاح يالقلبك القاسي هل نعود ونادية هاهنا لوحدها؟

- بالله عليك يانورية لم ترى عيني النوم منذ يومين

تبدلت طباع المرأة وأخذت تتفوه بكلمات غيرمتناسقة تحولت لماض جميل ترأى لها اليوم الأول لدخول نادية المدرسة وصورها مع زميلاتها وأناشيد الصباح وبلبلها والقط والظفيرة ، اطل الصباح كانت مائدة الافطار تضم ثلاث اشخاص كما في الايام السابقة ،  فتاح و نورية و........نادية.... كان حلم.


مشاهدات 67
الكاتب فاضل الفتلاوي
أضيف 2025/04/12 - 2:41 AM
آخر تحديث 2025/04/12 - 8:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 996 الشهر 11377 الكلي 10592024
الوقت الآن
السبت 2025/4/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير