الحريزي..الرؤى النبيلة والنسيج الفكري
هاتف بشبوش
وأنا أتمعّنُ في البراح الشعري الأخضر للشاعرحميد الحريزي تتراءى لي أغلب الأحكام القيّمة ، الفرضيات ، الإستيهام ، التلازم الإبداعي البعيد عن التنظير ثم ترجمة الوعي الطبقي والإجتماعي والعشق الأتي والغادي بشكل فني مغايرٍ. في نصوصه نسمع صوت القيثار الإعترافي والتأملي ، الصراخي ، الموقفي ، والإشتهائي .
الكلمة بالنسبة لحميد الحريزي ذات أبعاد وأغوار تكشف أنواع مستويات الإدراك والتخمين لذات الواقعة والحدث وتشكل لنا الحكمة والموعظة والتسلية معا وهي على صلة دائمة بالنظام الفكري لأشعاره ولايمكن لنا أن نفسر مايقوله سطحيا لأنها العصارة الخاصة بحميد ورأيهِ في مايدور حول الحياة .
حميد الحريزي في ديوانه (مساميرٌ من طين ) موضوعة دراستنا هذي ، والتي غرز بها اكثر مساميره على شكل أسفين الهايكو المنفرد مثلما يقول ( تحت جنح الظلام / يتناغى العشاق / أعلن الفيتو / صوتُ غرابٍ ). حميد يكتب بالسليقة المطلقة البعيدة عن التباهي الدقيق والمبالغ به كما لدى البعض في تصوير أنفسهم كما دقة ساعات الجدران .أنه الشاعر الذي زرع الحقيقة ويتأمل أن ينالها ولو في الحلم إن لم تتحقق في الواقع .حميد يمنحني السعادة اليسارية الكبيرة ويدخلُ فيّ السرور الذي ألفته منذ سنين لكنه غاب بعض الشطط بسبب المتغيرات العالمية . أنه يعيدني الى هناك في العراق وفي السبعينيات حيث كانت مقرات أحفاد عروة بن الورد تلك التي تجعلني منتشيا بالخدرالجميل الذي أتذكره الآن بعد تهدّل العمر وانحناءه نحو الشيخوخة الأولى على عجل دون درايةٍ منا . لنقرا حميد ادناه بهذا الصدد:
لم يترك لنا والدي
سوى الهموم
فتقاسمناها انا واخوتي بالتراضي
فلا حاجة لنا بالقسّام الشرعي
انه الإرث الشيوعي بحق ، فالشيوعي لايفكر أن يملك سوى ما يعينه على الحياة الحرة الكريمة لا كما سياسيو اليوم وما يملكونه بشكل لايصدق ولذلك تناول الشاعر حميد قضية الكهنوت المسيّس ، فهو في كل بقاع الأرض يعني التدليس والإتيان بما لايصدقه العقل من خرافات وأساطير وقصص يصدقها البسطاء من الناس لما في رجل الدين من قوة الحيلة وحبك مايقوله أمام الفقراء ولذلك شهدت أوربا قبل قرون مضت العصر الذهبي للكنيسة وسلطتها التي كانت تسطر أكاذيبها كما يروي لنا كتاب سير الشهداء القديسين وقصة ذاك القديس الذي قام بمعجزات واستشهد في سبيل إيمانه حيثُ قطعوا رأسه فاذا هو ينهض فيتناول رأسه من الأرض ويعانقه بحنان ثم يسير مدة طويلة حاملا رأسه بيديه حانيا عليه ملاطفا له . هذه واحدة من سخريات الكنيسة أيام زهوها وسلطتها . لكن مهمة الأدباء والرجال الوطنيين هو فضح هؤلاء ولذلك أنجب التأريخ أمثال مايكوفسكي الساخر الرهيب من الكهنوت ، تولستوي الذي أوصى قبل موته بعدم قراءة الجناز على جثمانه . أما على مستوى العرب فلدينا أبو العلاء المعري ومعروف الرصافي وكيف تحدث عن إكذوبة الرجل المصلح . ولذلك نرى حميد على غرار ماذكرناهم أعلاه راح يفضح الذين يريدون المضي بنا الى قعر الجهل والتخلف لأغراض تخدم مصالحهم وعيشهم الرغيد . فأتحفنا في جزء من رائعته الموسومة ( لايعني ) :
أن تشج رأسك
لايعني
أنك تحب حسيناً
أن تقيم الولائم
لايعني أنك
إنتصرت للحسين
أن تنتنصر للحسين
أن تنتمي لثورة الجياع
أن تسير على مبادئه
يعني أنك أصبحت
حسينياً
هكذا إنتهى الوطن بأفعال ما أنزل الله بها من سلطان كما قرأنا الشاعر حميد . إنتهى بين رجال دين أفاكين يطلقون الميديا الكاذبة لهكذا تصرفات ما عهدناها سابقا في عراق الوطنية والعلمانية لآنهم يريدون تكفير فئة كبيرة من المجتمع لكونها علمانية وبإسلوب منافق ، على غرار معاوية الذي قال لأتباعه لقد قتل علي بن ابي طالب وهو يصلّي صلاة الفجر ، فاستغرب الناس وقالوا.. وهل عليّ يصلي ؟ لأنّ إعلام معاوية كان يروج بأنّ علي كافر ولكن عند مقتله اراد معاوية أن يخمد الثورة والمعارضة فأدلى بهكذا تصرح مريب . وهذا ما يفعله الكهنوت في العراق من أنّ المثقف والعلماني ملحد وكافر بينما انتهى الوطن بين مخابرات اسرائيلية وأمريكية وأجنبية أخرى . أما الفقير لايلتحف غير لحاف الوطنية مثلما أطلقها محمود درويش (الوطن للأغنياء والوطنية للفقراء ). فلنقرأ حميد أدناه بصدد ذلك ونصه الدمّاع ( القمامة) :
هطلت دموعي مدراراً
فقالوا
كفاك أكل البصل!!
ياخنازير بلدي
هل أبقيتم
لي غير الباذنجان والبصل؟
شاب رأسي وحتى الرموش
فقالوا كفاك سِبحاً
في الحليب ؟
من خلال الوجع والألم أعلاه الذي قرأناه لابد للشاعرأن يكون مهووسا بنيل الحرية وعلى أنواع أشكالها ولذلك نرى حميد هو النشيد والأغنية بكل مافيهما من جمال الروعة والطلّة والنغمة الموسيقية التي تحكي قصص العراق وجدائل نساءه الجميلات الحنونات فراح حميد يكتب لنا عن حريته إتجاه هذه المخلوقة اللطيفة الجنس التي تصطاد ألبابنا وإبداعنا وأقلامنا فتجبرنا أن نكتب عنها في كل شاردة وواردة ويعترف بها من أنها الشغل الشاغل والمنازعات الكبرى التي تشغل أوراق المبدعين والكتّاب رغما عنهم أو طوعا لما فيها من السحر الذي يفتك بقلوبهم ويأسرهم ... ولذلك ليس إعتباطا أن تدخل المرأة في أوراق الشاعر حميد في ( الحرية حبيبتي) :
حبيبتي
فدى نعليكِ كلً النياشين
والألقاب والقصوروالفلل
فدّنكِ كلُ بحور الشعر
الرجز
الطويل
أو الرمل
أنت أم البحور
أنت الياسمين والبخور
أنت الحياة
بلا قيودٍ ولا مللْ
المرأة أكثر جرأة وعزماً من الرجل فلسنا جنس الرجال سوى عبيد طائعين للوهم ، فحين تقرر إمرأة معاشرة رجل ما فليس هناك من جدار إسمنتي الا وتجتازه ، ولا أسوار الا وحطمتها ولا أعراف ولا أخلاق حتى تخترقها وما من ثمة رب ينفع . (ليزي) عاشقة إنجلز وزعيمة في الحركة الآيرلندية وصديقة ( إيلانوار) إبنة ماركس كانتا تشربان النبيذ حتى تسقطان وتنامان .( ليزي) هذه لم تكن تعرف اللغة لكنّ انجلز يعرف تسعَ لغات ورغم ذلك كانوا عاشقين حميمين تخلّدوا عبر التأريخ بحبهم هذا الذي أصبح مضربا للأمثال . هذه هي جمالات المرأة ووجودها في العالم الإفتراضي او الواقعي الجميل لدى حميد الحريزي . المرأة مع الرجل عمودان رئيسيان لبناء الاوطان من خلال الثورية والوجدان كما في الفيلم الجميل من انتاج 1998 وكيف تمسّك كل من العاشقان بحب تشيلي قبل سقوطها على يد الجزار ( بينوشيت ) وهذا الفلم من تمثيل ( جيرمي آيرون ) و أنطونيو باندرياس وميريل ستريب ، لكن النضال إستمر حتى إستعادت شيلي حقوقها ونظامها الإشتراكي الديمقراطي عبر مفاهيم عديدة فلينين بنى الإتحاد السوفيتي من العدم ورحل ووجدوا في جيبة ستة روبلات فقط . هزم ستالين النازية ورحل بلا بيت وبقيت إبنتة (سفتلانا) تعيش في بيوت الإيجار بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي.أسس هوشي منة فيتنام وفي بضعِ سنين أصبحت هذة الدولة الزراعية من أعظم البلدان صناعة ثم مات هوشي منة في بيت من القش بين رفاقة القدامى .ماو كان ينزل الى الشارع يكنس الطرق مع عمال النظافة . ماو أسس الصين الحديثة وفي غضون خمس سنوات اصبحت الصين القروية أرقى دولة صناعية في العالم بعد إن كانت الثيران تجر محراثها الزراعي .
الشعر بالنسبة لحميد هو الرغبة في حياة بلاموت وبما انه ليس أكيداً من أنّ هناك حياة اخرى ، فالشعر أخبرنا بأنها حياة رائعة . في الشعر نستطيع انْ نجد كيف انّ اللغة واللسان هما عضوان فعالان . أنه كلام الشاعر النابع من نهر خياله والذي يصب في محكمة العقل أنه الأسمى من الآيديولوجية أنه الإنفعال المنبعث من الروح القلقة أنه الجنون الإبداعي و الباكي حرقة ًوألماَ على المصير المفقود والضائع لبني الإنسان . في الشعر نتساءل ولم نتوقف عن السؤال حتى لو لم نحصل على إجاباتنا ولأن البوح ينبع كالنهر فانه لايتوقف عند مصب بل سيظل جاريا متحركا بأمواجه العاتية ولذلك نرى الشاعر حميد دائم في التساؤل كما في الهايكو أدناه :
بعد وفاتهِ سألتها
يا أمي : ماذا ترك لنا والدي
فأعطتني منجلاً
ومطرقةً ..
فها هناك كما في اعلاه أكثر من هذه الأخلاق الشيوعية التي إستمر بها حميد حتى هذا اليوم ، وعمر الشاقي باقي ، لكنه العمر النبيل الذي تحلّى به الشاعر حميد كما في نصه الوجداني المحض وفي نفس الوقت صرخة بوجه من يريد أن يملك كثيرا دون الحسبان لحاجة الآخرين . لنقرأ حميد هنا في نصه ( الإستجداء النبيل ):
لا اعرف غير الجّد
قد يجدي أو لايجدي
لم تمتد يدي الى أحدِ
لاحاجة لي بالمال
نحمدهُ
سكن عندي
لست بحاجة للخبز
ولكني لاأخجل
أن أستجدي
حروف كل كتاب تطاله يدي
في هذا النص أرى الشاعر حميد يكتب بما يمليه عليه نسيجه الفكري ورؤياه النبيلة في مجمل نصوصه الحداثية المطلقة (أني لا أنقل من الطبيعة وإنما أرسم بجفونها وأنا لاأعرف العالم كما أراه ولكن كما أفكر فيه .. بيكاسو) . حميد يبوح على سجيته وأثناء مايكون قد إمتلأ من الأرهاصات والأختلاجات التي لاتتحمل الأبقاء عليها تحت طيات العقل والتي يتوجب عليه تفريغها على الورق كي تستريح السريرة الشاعرية لديه وهكذا هو حال الدوّامة التي تصيب الشاعر الحقيقي كمرض مزمن لايمكن الخلاص منه بالطرق التقليدية كما وأنه يظل في حمى متناوبة يمكن لها أن تبرد بين الفينة والأخرى تبعا لنتاجه الشعري وهذا يتوقف على مدى مداده الشعري لكن الشاعر حميد مازال على قيد العقل الجميل كما في فيلم( روسل كرو) الحائز على جائزة نوبل والذي تناول فلسفة الرياضيات . مازال حميد على قيد الحب مستمرا في إحترام المرأة نصفنا الهائم في بحر الوجود كما في نصه (بحر الغرام ) ..
تجللني بشعرها الحرير
يسكرني
لثم منائر النهود
فاسقط
بين تويجات الزهور
مصابا بارتفاع ضغط الغرام
العالم النفسي سيجموند فرويد إجتهد كثيرا في أنْ يجعل العلاقة بين المرأة والرجل في أحسن حالها ، يدعو الى المعاشرة وممارسة السعادة التي من شأنها أنْ تجعل الأثنين في علاقة حميمية متبادلة قادرة عاى أنْ تسيرّ الحياة نحو الأفضل قادرة على أنْ تطفئ جمر الأمراض النفسية الناجمة عن الأنغلاق في هذا المضماروتستطيع أنْ تقتل لهيب الروح الماسوشية والسادية لدى الطرفين ، قادرة على أنْ تجعل الذكر سندانا وهنّ مطارقاً وأصصاً وردية . وهذه لنْ تغفل عن إبداع الشاعر حميد الذي يصمم على أنْ يجعل من الحياة حركيّة دائمة لايمكن لها الوقوف عند باب رجعية الفكر وتخلفه .
كلمة أخيرة بحق الشاعر حميد ..
من خلال أغلب الثيمات التي قرأتها في هذا الديوان وجدت أن الشاعر حميد شبه الأوطان التي تعاني من الطغاة من أنها مثل إمرأةٍ تصرخ والكل يريد مضاجعتها وهذه تشبه ما أخبرتنا به رواية الإخوة كارامازوف الشهيرة لديستويفسكي وما حصل (ليزافيتا سمردياشا) البنت المعتوهة الخرساء التي تجوب الشوارع و التي يجدونها حبلى فتولد وهي تصرخ وتموت ووليدها بالقرب منها ولم يعرف أحد من إغتصب هذه المجنونة المسكينة فتذهب ضحية المجتمع وتصرّف الرجال البشعين . أما الحب بالنسبة لحميد فهو الحرية التي لابد لها أن تكون ضمن نطاق التضحيه ، الحب أن تنقذ الغرقى وفي النهاية تجد نفسك غارقا ، الحب أن تموت من أجل الحبيب والوطن سيان مثلما حصل لأنطونيوس وكاليوباترا اللذان ماتوا في سبيل قضية عصية على الربح لكنهم إستمروا في الدفاع عن الحب والوطن حتى فنائهم وتخليدهم في ذرى المجد . ويبقى حميد هو الشاعر الذي إمتلك الناصية العالية وخلق لنفسه جنسا أدبيا خاصا به ويشار له ببنان الإبداع والمعرفة التي لايمكن لها أن تتوقف حتى آخر نبض في الوصال .
شاعر وناقد عراقي