الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شوشا جوهرة أذربيجان.. قراءة أدبية نقدية في سردية المكان والهوية


شوشا جوهرة أذربيجان.. قراءة أدبية نقدية في سردية المكان والهوية

 وسام علي الخالدي

 

حين تُذكر المدن، تمرّ الأسماء كظلال على جدار الجغرافيا، لكنّ هناك مدنًا لا تُذكر بل تُستدعى، كما يُستدعى الحلم العتيق أو القصيدة التي لم تُكتمل. شوشا، المدينة التي تقف على حافة الغيم، لا تُقرأ كما تُقرأ الخرائط، بل كما تُقرأ الأساطير. إنها ليست مجرد مكان، بل ذاكرة تمشي، وصوتٌ متجذر في أعماق الشعب الأذري، ومرآة تُجسد وجهاً من وجوه الكرامة التي أُريد لها أن تُمحى. في كتاب "شوشا، جوهرة أذربيجان" لا نجد مجرد وصفٍ لمدينة، بل نسمع نبضها، ونرى ظلالها وهي تقاوم السقوط في العدم، ونشهد كيف تصير الكلمة سورًا يحمي الطلل من الريح، والماضي من النسيان.

يحمل عنوان الكتاب "شوشا، جوهرة أذربيجان" دلالة رمزية عميقة لا تخلو من محمولات جمالية وتاريخية، إذ لا يُراد من "الجوهرة" معناها الزخرفي أو المادي فحسب، بل يُقصد بها المعنى الكامن، الثمين، النادر، المكنون في عمق الأرض والوجدان معًا. فالجوهرة لا تكتسب قيمتها من لمعانها الظاهري فقط، بل من مكانها الدفين، من ندرتها، من كونها تُستخرج بشقّ النفس ثم تُصقل بالزمن والوجع والصبر، تمامًا كما هي شوشا: مدينةٌ وُلدت في قمم الجبال، ونضجت في حضن التاريخ، ومرت على نار التجارب، فصارت جوهرة لا تشبه سواها. ثم إن الجوهرة لا تُهدى إلا لمن يُقدّرها، ولا تُكتشف إلا لمن يعرف التنقيب في العمق. وهذا ما يفعله الكاتب تمامًا، حين يغوص في طبقات المدينة، يستخرج من صمتها لغتها، ومن حجارتها موسيقاها، ومن أنينها نشيدها. العنوان إذًا ليس زينة لغوية، بل مفتاح تأويلي عميق يدخل منه القارئ إلى قلب المدينة، لا بعين السائح، بل بعين العارف، الذي يعرف أن كل جوهرة ثمينة هي في الأصل ذاكرة مجروحة أضاءها الحنين.

يمضي الكتاب في رسم ملامح المدينة كما ترسم الريشة على القماش المبلل بذكريات شعبٍ يقاوم النسيان. لا يتعامل النص مع شوشا بوصفها أثرًا عتيقًا أو بقعة جغرافية عابرة، بل ككائن رمزي يشكّل وجدان أذربيجان الجمعي، ومركزًا للهوية الثقافية التي لا تذوب في محابر التاريخ ولا تُطمَس تحت ركام الحروب. في كل صفحة، ثمّة شعورٌ بأن المدينة تنبض داخل الكلمات، وتتنفّس من بين السطور، وكأن المؤلف يُخرجها من صمتها القسري لتروي حكاياتها بلسانها هي، لا بلسان المؤرخين.

تكمن فرادة هذا العمل في قدرته على المزاوجة بين التوثيق والعاطفة، بين الحياد العلمي والانحياز الجمالي، فيقدّم شوشا كأيقونة ثقافية شهدت ميلاد كبار الموسيقيين والشعراء، وكانت مسرحًا لصراع طويل بين الوجود والعدم. يُستثمر الجانب المعماري للمدينة بوصفه مرآة للتاريخ وحارسًا للهوية، فيتحوّل الحجر إلى ذاكرة، والباب إلى شاهد، والنافذة إلى عين تتأمل التحوّلات الكبرى في مصير الأمة الأذرية. وتتسع الرؤية لتشمل علاقة الإنسان بالمكان، حيث تصبح شوشا رمزًا لكلّ مدينة تقاوم التحريف والانمحاء، ولكلّ شعبٍ يحمل ماضيه على أكتافه دون أن ينكسر.

ينبع الجمال في هذا الكتاب من لغته التي تمزج بين الشاعرية والصرامة، ومن سردٍ يتقن فن الإيحاء دون أن يفرّ من الحقيقة. فالمؤلف لا يقع في فخ الحنين الفجّ، ولا يغرق في خطاب التمجيد الجاف، بل يبني رؤيته على وعي نقدي يتعامل مع المدينة كموقعٍ ثقافي وسياسي واستراتيجي، ويحلّل تأثيرها في رسم ملامح الوعي الوطني للأذريين. ويُبدي النص قدرة مميزة على كشف كيف يُصبح المكان عنصرًا فاعلًا في تشكيل ذاكرة الأمة، وكيف أن مدينة مثل شوشا يمكن أن تتجاوز جغرافيتها المحدودة لتتحوّل إلى رمزٍ مقاومٍ يختزن صوت الأرض وروح الشعب.

يشتغل النص على سردية المكان بوصفها بُنية مقاومة، لا كمجرد إطار زمني أو خلفية أحداث. فشوشا هنا لا تُستَعرض، بل تُستَحضَر، وكأنها شخصية روائية ذات ملامح وصوت ومسار درامي، تتعرّض للهجوم، ثم تنسحب، ثم تعود لتؤكد حضورها. هذه المقاربة السردية توظف تقنيات الاستعادة والتكثيف، فتُستعاد التفاصيل الصغيرة من ذاكرة المدينة: بلاط البيوت، أصوات الأسواق، رائحة الأشجار، لتبني عالماً سرديًا يُقاوم الفقد بالنبرة والملمس والضوء.

وعلى المستوى الثقافي، يقدّم الكتاب شوشا كمركز إشعاع ثقافي متعدّد الطبقات، لا باعتبارها حاضنة لتراث فني فقط، بل كأصل من أصول الذات الأذرية، بما تحمله من موسيقى (كالمقام الأذري)، وأدب، وحكايات شعبية، وتقاليد عمرانية. يبرز المؤلف بوعيٍ لافت كيف أن الثقافة ليست ترفًا، بل آلية بقاء. فالموسيقى في شوشا ليست للتسلية، بل آلية لتثبيت الصوت في زمن أرادت فيه الحرب أن تُسكت المدينة، والشعر فيها ليس تعبيرًا شعوريًا، بل شهادة إثبات وجود في وجه محوٍ قسري.

أما من حيث البعد السياسي، فإن الكتاب ينهض على تأويل غير مباشر للصراع، حيث لا يقع في فخ الخطابة، ولا يجنح إلى الاستفزاز، بل يستخدم الأدب والرمز والجمال كوسائل مقاومة أعمق أثرًا. إنّ استعادة شوشا عبر الكتابة تُعدّ شكلاً من أشكال "التحرير الرمزي"، إذ تتحرر المدينة أولاً في الوعي والوجدان قبل أن تتحرر على الأرض. وهذا ما يمنح النص قوة مزدوجة: قوة الثقافة في مواجهة القهر، وقوة الكلمة في دحض النسيان.

في ختام هذا العمل المتفرّد، يتبدّى "شوشا، جوهرة أذربيجان" كأكثر من كتاب، بل كنداءٍ مكتوم خرج من قلب الجبال، ليستعيد للمدينة نبضها، وللهوية شعلتها، وللذاكرة صوتها الذي طال صمته. هو سفرٌ في الزمان والمكان، لكنه أيضًا رحلة في عمق الذات الأذرية، التي لا تزال تقبض على جذورها كما تُقبض القصائد على حبرها الأخير. لقد نجح المؤلف في أن يُحيي المدينة على الورق كما تُحيي الصلاة الروح، فبدت شوشا في النص لا كأنها تنتمي إلى الجغرافيا فحسب، بل كأنها تنتمي إلى الحلم، إلى الجمال، إلى المعنى الذي لا يُقهر. هكذا تظلّ شوشا ـ كما أرادها الكتاب ـ جوهرة لا تشيخ، واسمًا محفورًا على صخرة التاريخ، لا تمحوه الحروب ولا تذروه الرياح.


مشاهدات 105
الكاتب  وسام علي الخالدي
أضيف 2025/06/28 - 10:53 AM
آخر تحديث 2025/06/28 - 4:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 457 الشهر 17484 الكلي 11152138
الوقت الآن
السبت 2025/6/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير