الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءةٌ في كتاب  ديالاس وشجرة التّوت شاكر نوري للنّاقد مقداد مسعود 


قراءةٌ في كتاب  ديالاس وشجرة التّوت شاكر نوري للنّاقد مقداد مسعود 

عـلاء لازم العيـسى

( 1 )

   لو أردتُ أن أختار تعريفاً موجزاً للنّقد الأدبيّ وبأربع كلمات فقط ، لقلتُ أنّه : ( تحليلُ النّصّ لتقييم جدارتِهِ )، وبواسطة تقييم هذه الجدارة يستطيع النّاقد الحاذق والألمعيّ إثبات قيمة النّصّوص واستحقاقها ، والمفاضلة بينها وبين غيرها من النّصوص ، لمجموعة كتّاب أو لكاتب واحد ، وبهذا تتحوّل وظيفة النّاقد من قارئ عادي يبغي من وراء قراءته تمضية الوقت أو قتل الفراغ ، ومن متصيّد للأخطاء والنّواقص فقط ، إلى قارئ منتج لخطاب جديد وهي ( قراءته النّقديّة ) ، على حساب خطاب قديم هو ( النّصّ المنقود ) . ممّا يجعل العلاقة بين الكتابات النّقديّة الجادّة والكتابات الفلسفيّة علاقة وثيقة ، باعتبار اجتماعهما بنقطتين مهمّتين : التّحليل والكشف ، وإعادة إنتاج خطاب جديد .

   وهذا ما فعله مقداد مسعود في كتابه : ( ديالاس وشجرة التّوت شاكر نوري ، ط1 ، منشورات نادي الفلسفة ، البصرة ، 2025 )، بصفحاته الـ ( 136ص ) الّتي احتوت قراءات جادّة في عشر روايات للقاص والرسّام والمترجم والرّوائيّ العراقيّ المبدع شاكر نوري ، المولود في جلولاء سنة 1949 ، والحاصل على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة السّوربون في باريس سنة 1983 ، والحاصل على جائزة ابن بطّوطة للرّحلات سنة 2013 .   

( 2 )

   منذ البدء أعلمنا الكاتب الأستاذ مقداد مسعود بأنّ قراءاته للرّوايات ، بصورة عامّة ، لا تتعكّز على منهج نقديّ بعينه ، وأنّ اقتراضه من الكتابات النّقديّة لا يكون إلّا عند الضّرورة الأقصى ؛ لأن تجربته في الحياة والكتابة صيّرت له كافّة النّظريّات رماديّة اللون " فهي تضطهد الإبداع وتسقط عليه مناهجها " . كما أنّه أختار أن يكون في قراءاته قارئاً ينظر ( في ) الأشياء ، فيختار وقتاً ملائماً للقراءة ليغوص في طبقات الرّواية ويُصغي إلى حوارات الأبطال ويتماهى مع الحدث الرّوائيّ ثُمّ يميط اللثام عن خباياها ويكشف عن المسكوت عنه في أعماقها ، لا ( إلى ) الأشياء  فيكتفي بظواهرها فقط دون الغوص في أعماقها والتعرّف على مقاصدها .

( 3 )

   وكانت المحطّة الأولى في كتابه هي رواية ( خاتون بغداد ) فبعد أن فرّق النّاقد بين المؤرّخ ، وهو من يكتب أمالي السّلطة بهذه النّسبة المئويّة أو تلك ، وبين الرّوائيّ المنصف ، وهو من يكتب تاريخ بلاده بنزعة جماليّة ، وبخبرته يمتزج الأرشيفيّ بالمخيال والرّوائيّ فيسخّر الخيال في خدمة التّأريخ وليس العكس ، نسب الرّوائيّ شاكر نوري إلى الصّنف الثّاني وهو الرّوائيّ المنصف ؛ وراح يحاكم النصّ الرّوائيّ ( خاتون بغداد ) الّذي اتّخذ من الدّبلوماسيّة البريطانيّة صانعة الملوك المس بيل ، الّتي كانت تصوغ القرارات على الورق في الليل ، لينفّذها المندوب السّامي في الصّباح ، الشّخصيّة المحوريّة الرّئيسة في الرّواية ، وأثبت أنّ الرّواية لم تكن وثائقيّة ولم يكن شاكر نوري ناقلاً أرشيفيّاً فقط ، بل مبدعاً لجأ إلى استحضار حبكة تدور حول الاستعمارين البريطانيّ والأميركيّ من خلال جعله الزمنين 11 / 3 / 1917 ، و 2003 يتجاوران في المطبوع الرّوائيّ ( خاتون بغداد ) " وهذا التّجاور لا يخلو من دلالات عميقة ، حيث لا يوجد قطع تاريخيّ بين الزّمنين فكلاهما احتلال إمبرياليّ ، الأوّل بطبعته البريطانيّة والثّاني بطبعته الأمريكيّة " .

( 4 )

   وبعد قراءته لرواية ( خاتون بغداد ) انتقل النّاقد ، وبحسب التّرتيب الآتي ، إلى الغوص في بطون الرّوايات : ( طائر القشلة ، جحيم الرّاهب ، شامان ، ديالاس ، نافذة العنكبوت ، الرّواية العمياء ، كلاب جلجامش ، نزوة الموتى ، المنطقة الخضراء ، وجنون خلف جدران بوكا ) فسبر أعماقها وبدّد ظلمات أغوارها بمسبار ثقافته الموسوعيّة ، وبحسّه النّقديّ المرهف ، وبحساسيته العالية الّتي ألهمته القدرة على ملاحظة أدق التّفاصيل في العناوين والنّصوص وعتباتها .

( 5 )

   فعن طريقة الحكي أو السّرد الّذي اتّبعه الرّوائي شاكر نوري لتقديم أحداث رواية ( طائر القشلة ) قال مقداد مسعود تحت عنوان التّسارد الرّوائيّ " التّسارد الرّوائيّ في هذه الرّواية يكتنز جهويّات ثرّة ، ولا يقتصر التّسارد على الشّخوص إذ للّون سرديّاته من خلال خالد الرسّام وأستاذ الجماليّات ، ... ، لهذا الليل سرديّاته من خلال المشّاء السّاري غدير ، ... ، وهناك ما تسرده الحانة في الليل ، وسردها الليليّ لا يتجاور مع سرديّات الليل بالمفرد من خلال تكليم غدير لذاته وللأشياء " ( ص26 ) .

   وفي ( جحيم الرّاهب ) كانت وقفته الأولى مع عنوان الرّواية الّذي ينفتح على سلسلة من الدّلالات ، لماذا هذا العنوان الصّادم ؟!  فإذا كان " الرّاهب هو منتج الطّمأنينة المطلقة يكرّزها ويُعلنها وينثرها في قلوب المخذولات والضّالين ، إذن كيف يكون الحال إذا كان الرّاهب جحيماً !! فمن ينظّف العائذين به من الألم والإثم ويحميهم بالمغفرة " ( ص30 ). ثمّ تتعدّد الوقفات والتّحليليّات بتعدّد حزمة المثاني : الغلط والصّح ، الرّاهبان : جوزيف الّذي أمضى ثلاثين سنة في الدّير ناسكاً زاهداً ثمّ خذل الرّاهبات والرّهبان قائداً ، وأسحق الرّاهب الّذي خذلهم أكاديميّاً ، ثمّ داخل الدّير وخارج الدّير ، الأرض والسّماء ، الزّي الكهنوتيّ والتحرّر من الزّي الكهنوتيّ .

   أمّا في ( ديالاس ) ذلك النّهر الخالد الّذي هجره النّاس ، فيرى الأستاذ مسعود أنّ " الأدب الرّفيع لا الجغرافية مَنْ يخلّد الأمكنة " ( ص53 )، مستشهداً بالسيّاب ونهره الحزين بويب وبنجيب محفوظ وثرثرة النّيل ، ثمّ يتتبّع ( آدم ) بطل الرّواية في حركاته وسكناته ، ورحلته بين الذّات والنّهر، ويعرّج على الذّاكرتين الّلتين صنعتا الرّواية : ذاكرة المؤلّف شاكر نوري وذاكرة الأم الّتي تبثّها لولدها عبر الموبايل ، وبسبب وجود الفراغات والثّقوب في الذّاكرتين " يبرز دور الطّرف الثّالث وهو المخيّلة السّرديّة الّتي يستمدّها المؤلّف من تجربته الرّوائيّة العميقة والمديدة "         ( ص64 ). وبهذه الطّريقة نفسها ، تفكيكاً وتحليلاً وتأويلاً ، اشتغل ناقدنا الألمعي مع بقيّة قراءاته لما تبقّى من روايات .   

( 6 )

   أخيراً ، فإنّ مقداد مسعود قدّم بكتابه : ( ديالاس وشجرة التّوت شاكر نوري ) قراءات ، بل قل دراسات نقديّة ناضجة وثريّة بالمعاني والدّلالات ، تدفع القارئ لروايات الرّوائي المبدع الدكتور شاكر نوري إلى الغوص في أعمق أعماقها ، والتركيز على التفاتاتها الذّكيّة ، والّتي قد لا يلاحظها أثناء القراءة ، مع المحافظة على جانب الإدهاش في هذه الرّواية أو تلك . وبعبارة أخرى أنّ هذا الكتاب هو دعوة من المؤلّف لأن ننظر ( في ) النّصوص لا أن ننظر ( إلى ) النّصوص كما ذكر في مقدّمة كتابه ، وأن نتحوّل إلى قرّاء غوّاصين لا يكتفون بالانفعال المنبعثُ من التعبير الوجدانيّ الإنشائيّ للنصّ فقط ، بل أن يجمعون مع الانفعال الوجدانيّ ، عند تلقّي النصّ الأدبيّ ، الانفعال العقليّ ، وهو ما أطلق عليه أحد النقّاد الأكاديميين العرب عبارة تشريح النصّ .  


مشاهدات 35
الكاتب عـلاء لازم العيـسى
أضيف 2025/10/01 - 3:42 PM
آخر تحديث 2025/10/02 - 1:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 40 الشهر 762 الكلي 12040617
الوقت الآن
الخميس 2025/10/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير