الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ألواح برسم النار… ملحمة الخراب والقيامة

بواسطة azzaman

ألواح برسم النار… ملحمة الخراب والقيامة

بيروت - الزمان

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت كتاب شعري جديد للشاعرة والكاتبة العراقية الكندية لهيب عبدالخالق بعنوان "ألواح برسم النار".

يمثل هذا العمل الجديد المحطة السادسة في مسيرة الشاعرة الشعرية، والثامن في مجمل إصداراتها التي تنوعت بين الشعر والبحث السياسي والثقافي. وتأتي المجموعة في نحو 183 صفحة، لتتوزع على ألواح شعرية تحاكي الذاكرة السومرية، وتستعيد أصوات أور ونُفّر، وترانيم الكاهنة إنخيدوانا، وحضور الملكة–الكاهنة شُبعاد، في تماهٍ مع أسئلة الحاضر وحروبه وخرابه.

تفتتح الشاعرة كتابها بإهداء يجعل الوطن جرحًا مضيئًا، ثم تنسج عبر الألواح نصوصًا تمتد من الولادة الأولى للطين إلى الخيانة والسقوط وصولًا إلى إعلان القيامة. وفي كل ذلك، يبقى الشعر الخيط الذي يربط الماضي بالحاضر، والذاكرة بالمنفى، حيث يتحاور الحجر مع الغياب. لغة الكتاب تكتب من أفق ما بعد الحداثة، معتمدةً الانزياح وكثافة الصورة والرمزية العميقة؛ فالقصيدة هنا ليست مقطعًا غنائيًا بل لوحٌ جديد، يتقاطع فيه صوت المرأة–الشاعرة مع الكاهنة والملكة والمدينة المهدمة، في كتابة شعرية تنبثق من سومر لتسائل حاضرنا.

تقول الشاعرة في أحد الألواح على لسان شُبعاد: "أنا الشاهدة والقصيدة"، في إشارة إلى وحدة الشهادة والإبداع، وإلى أن الكتابة نفسها فعل مقاومة ضد النسيان، ومحاولة لصون الأثر من التلاشي. وهكذا يصبح الكتاب شهادة شعرية كبرى على الخراب والغياب، وفي الوقت نفسه نبوءة بالقيامة، حيث يستعيد الطين صوته والقصيدة معناها. وفي لوح آخر تعلن:

"أما أنا، فأحمل النار في قبضتي،

وأمشي بها إلى آخر النشيد.

وإن سقط هذا الوطن ألف مرة،

سأعيده من رماد النساء،

من أعين لم تطرف،

من حكايات لم تُروَ بعد"..

هنا يتجلى الشعر كقوة تأسيس، كوصية نهائية تحفظ الوطن في اللغة إن خانته الأرض. وفي موضع آخر تكتب: "أنا لم أمت… أنا فقط نمتُ في فم الأغنية"، لتربط بين الموت والغياب واللغة، مؤكدة أن الشعر وحده قادر على منح الخلود لما حاول التاريخ أن يطمسه. كما نقرأ:

"لم أُخلَق لأبكي.

أنا التي سقطت على ركبة المعبد ولم تنكسر…

تحت تاجي، ماتت ألف لغة،

وقامت ألف مدينة من الحجارة التي رفعتُها وحدي"..

صورة تجسد الكاهنة/الملكة بوصفها قامة لا تُقهر، تحرس اللغات وتعيد بناء المدن وسط العدم. ويطل المنفى يطلّ أيضًا في صور شديدة الكثافة، مثل قولها: "كلُّ ما حملته كان ظلّي يمتدّ على الجدار مثل اعترافٍ لم يُكتب"، أو في نقش آخر: "أنا التي بَنَتْ من صَمتِها نارًا"، حيث يصبح الانتظار فعلًا وجوديًا يحفظ ما تبقى من الذاكرة. وحتى حين تُسائل الخراب السياسي والروحي تقول: "لم أخُن الترنيمة، بل خانني المذبح"، لتجعل من سقوط المعابد صدى لسقوط السياسة والأخلاق معًا.

يُذكر أن لهيب عبدالخالق شاعرة من جيل الثمانينات في العراق، لها حضور نقدي وصحفي وثقافي واسع، وصدرت لها مجموعات شعرية عدة من بينها: "انكسارات لطفولة غصن"،" وطن وخبز وجسد" ، "ترانيم سومرية"، "مسافة جرح"، و"ما قالت الريح لليل". كما أصدرت كتابين سياسيين، ونشرت مئات المقالات والدراسات في الصحافة العربية. وهي تقيم منذ سنوات في كندا، حيث تواصل مشروعها الإبداعي والبحثي، جامعًا بين الذاكرة العراقية وأسئلة الاغتراب والحداثة.

إنها نصوص تتنقّل بين الرماد والقيامة، بين سقوط المدن وانبعاثها من جديد، لا تكتفي ألواح برسم النار بالحداد على الماضي، بل تعيد كتابته من موقع جديد، بلغةٍ ما بعد حداثية تقوم على الانزياح وكثافة الصورة، حيث يتداخل صوت الكاهنة والملكة والمنفية والشاعرة في نص واحد لا ينطفئ، يواجه الخراب بقدرة الخلق نفسها. وليس غريبًا أن تصمم الشاعرة بنفسها غلاف الكتاب، ليغدو امتدادًا للنص ولوحًا آخر من ألواحه، يحمل البصمة التي تجمع بين الأثر والأسطورة. وهكذا يؤكد هذا الإصدار أن الشعر ما يزال قادرًا على أن يكون شاهدًا وقيامة معًا، وأن الكتابة، حين تُصاغ بوهج الذاكرة واللغة، تستطيع أن تحرس الأثر وتفتح أفقًا جديدًا لما بعد الخراب.


مشاهدات 41
أضيف 2025/11/22 - 1:00 AM
آخر تحديث 2025/11/22 - 2:10 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 101 الشهر 15524 الكلي 12677027
الوقت الآن
السبت 2025/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير