حديث مع جلال الدين الرومي

نجمان ياسين

 

ما أن منّ الله وأوقفني بين يديك

حتى أبصرت أنواره تتجلّى فيك ...

ها هي ذي الفراشات تحوم حواليك

وأكثر من نجمةٍ تنتسب اليك

ها هي روحك ترفُّ

تكتنز الإشراق، في قلوب العشاق

ها هي الشمس ترفل في عينيك

وسلسبيل الحب، ينبثق من يديك

سرب من ملائكةِ الوجد، يحرس وسامة ابتسامتك

يمسك بالقلب، وينصبه تاج العقل

ويمضي بالمتيمين ، الهائمين، المخطوفين، الى فجر أنوارك

ويمضي بنا إليك ...

أيَّ معجزة حباكَ مبدعك

لتجعل الشجر ينبت من الحجر؟

وتهزم شيخوخة سنواتي السبعين

وتعيدُ إليّ رونق فتوتي التي كنتُ أضعت؟

جئت في المساء

صليت – ركعتين في العشق

ولم يسرقني زحام المريدين

رأيتك تغادر - التكية - التي لم تتسع للعاشقين

ففرشت جسدك المبارك في الباحة المزدانة بالمخطوفين

المأخوذين بعسل كلماتك

طردت شمسُكَ الليل

وحلَّ نهارٌ ينثر الإشراق ...

قادني قلبي، حيث هطلت دموعي

وأنا أذوي في خضرة حضرتك

وأمام ضريحك الرهيف

كنتُ أرتّل الآيات البيّنات

وأرددّ أشعارك

وأنتحبُ

مسدت قلبي وقلتَ لي:

- يا بني مثواي في قلوبكم

وأنا بين يدي حبيب، محبّ

وهذا مقام سرور

وأنا في نعيم ربّ الحُبور !

لم أكن بدناً، وروحي كانت انخطفت

فأضعتُ حقيبة يدي

وعدتُ إلى حضرتك في مثواك

وأبصرتها تنتظرني في حضن أحد مريديك

إخضلّت عيناي، وشرعتُ أصغي اليك

عاتبتني بحنوّ:

- قلتُ لك يا بُنيّ، هذا مكان لا فسحة للحزن فيه

وكُلنا سيجد حقيبة سفره

ويؤوب الى من زرعنا في الأرض ...

أكنتَ تعلم أني جريح

ومقصيٌّ عن ثمر حرفك الخصيب

فقلت لي:

- تذكّر أن الجرح هو السبيل الذي ينفذ منه النور الى عروقك !

واعلم يا فتى، إنك إنْ رفعت رأسك وفتح قلبك عينيه

فستراني في كل سماء -قونيه-

فلتُبصر سماء روحك

سماء العاشقين

وانظر أقرانك، فلست مقصياً، ووحيداً

ولست تغرّد خارج سربهم

فقلوبهم مثلك، مأخوذة

ومنذورة للمحبوب!

قُلتَ لي:

- إن لم تقدر على خرق الأرض

فكُن في تاج الجبال

وتذكّر أن الجلال في التواضع

وأن الخزي في الكِبَرِ والتنطّع

تذكّر بأنك مأدبة الدود

وأن الألق يكمنُ بأن يحتضن قلبُك

كل قلب وسيم

تذكّر أن حب الناسِ من حبِّ الله ...

قلتُ:

- يا مولاي، بين الزهور ترقدون

ومحروسون أنتم بسورِ الحبيب

فقُلتَ:

- ستظلّ تجهل حتى تعلمَ

وأعرف أن المثوى واحد

وان سلامة القلب تقود الى سلامة المثوى !

قلتُ:

- يا مولاي، الآن أدركتُ بلاغة أن تُشرقَ الشمس في – قونيه - 

وتُبدّدُ صقيع الروح

فقلت لي:

- لا تجدّف يا فتى

فالشمس من آيات الله

وتأمَّلْ فستجدها في قلوب هؤلاء الذاكرين !

في الفجر الأبيض، جئتكَ

وقلت بلهفة طفل مبتهج:

- قصدتكَ قبل مجيء المريدين

فأشرقَت ابتسامتُك،، وقلت لي:

- يا فتى، أنت لم تغادرني حتى تأتي !

وقُلت لي:

- ألقِ بصرك، وقل لي ماذا ترى؟

عروسان كانا عن يميني يضيئان بمسرات الحضور

وعن شمالي، صبيةٌ قد قُدّت من نور...

أيها الرائق مثل دمعة طفل

الوديع مثل قبلة طفل يلثم خدّي أمّه أول مرة

أيُ فيوضٍ هذه

وأي هباتٍ تخفقُ بأسى

ولوعة الحب

وترفُّ الآن، وفي كلّ آن، في سماواتك

التي اختارتك، لتكون أمين العشاق

ورسول الوجْدِ المضيء في الأعماق ...

قلت لي:

- حاذِ خَطوي

لا قُدامي، لا ورائي

ولا تكن مساوياً لأي مخلوق، بل كُن موازياً ...

في مسجدك العبق بشذا أنفاسك

كنتُ أرمقُ بزوغك في المحراب

وأقرأُ ما تيسّر من أشعارك

أجلستني في حدائق الأرواح

وأومأت عيناك الوضيئتان، أن أكون في صحبة المرتّلين

المتبتلين

فأحسست بروحي تنهض من رماد بدني

وقلتُ:

- يا مولاي، كأس ملائكة الحب المُترَع

يغسل قلبي ببركات كلمات العشق

ويسري بي صوبَ مَنْ أهداك الطريق

وارتفع بروحي الى مقامك

وسمائك التي توّجتْكَ رسولاً للعاشقين ...

وقُلتُ:

- يا مولاي، لا بدّ من الموصل، وإن طال السفر

فقلتَ مبتسماً:

- لن ترحلَ عني، ولن أرحلَ عنك

ففيك مني، وفيَّ منكَ ما يُبقيك

وقلتُ لك:

- وداعاً يا مولاي، فالسفر ينتظرني

إزداد بهاءُ عينيك، وانبثق عسلُ لسانك، وقلتَ لي:

- كلنا سنصل ذات يوم

ونغادر هذا السفر الدامي

ولكم أن تداروا قلوبكم قبل سفركم

وكونوا في صحبة العاشقين التائبين !

ولتظلوا في نعيم الوالهين

الذين يبصرون الحبيب، المحبوب في كل حين !

قلتُ:

- الحنين الى بلدي يُشجيني

وليس لي إلاّ أن أؤوب

فبلدتي تناديني

قلتَ لي:

لا تعجل يا ولدي، فبلدتك فيك، وأنت فيها، أينما حللت

وتريّث

فكلنا سنؤوب الى محيط الغفران!

فكُنْ من المسبّحين

المغرمين بالمحبوب

وترنّم باسمه في دنيا المحبين

وانظر شمسَ بلدتك في روحك

وستنالُ السكينة

واليقين ...