عندما تهتز هيبة الدولة لأسباب تتقدمها: لا وطنية ساستها ولا عدالة قضاتها ولا حرص امنها ولا وعي تعليمها ولا متانة اقتصادها ولا اصالة ثقافتها، عندها يهرول “المواطنون” عائدين الى مرجعياتهم الدينية أو الطائفية أو العرقية أو المناطقية، يحتمون بها ويتذرعون اليها.
هذه الحال تعكس حال طغيان الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة التي لم تعد تكسب أحداً فخراً، أو تشكل له سنداً.
ومما يزيد الطين بلة هو انتشار الغوغائية والفساد وتراجع الوعي والحس الوطني، وانتشار الجهل والخرافة رغم كثرة الشهادات المعلقة على الجدران وتزايد دور العبادة.
إن من يتجول متخفياً وسابحاً بين أطياف من ينتمي الى الشعب العراقي يصيبه العجب العجاب.
دواوين ومضايف متنوعة وكثيرة، وشيوخ وسادة لا يتسع لهم المكان، ونجمات وأوسمة على أكتاف ضباط وعمداء وألوية وفرقاء، ونحن لم نزل نخاف عودة الارهاب وانسحاب الحلفاء والامريكان.
الجميع يتحدثون بالسياسة ويتسابقون في الانتخابات. الجميع يلعن العمالة والفساد والسرقات. مئات وآلاف من القرارات وأحكام القصاص من الحرامية والمرتشين والسراق تصدرها هيئات النزاهة والمساءلة والعدالة، فلا سرقة توقفت ولا فساد زال.
ما نزال، ومنذ عشرين عاماً، ورغم ما صرف من عشرات المليارات على الكهرباء، نعيش الظلمة وجحيم الصيف وزمهرير الشتاء. اقتصادنا مدمر ومستقبلنا مشوه، فلا عمل لمن يدرس، ولا كرامة لملايين المعوزين من الناس.
لم نعد نحمل غيرة وطنية، أو استعداداً لتضحية، أو رأفة بمن لا عمل له ولا دخل، ولا استعداداً لترك المكان المناسب للشخص المناسب، فنستمر في غوص وانحدار وهدر للمال والزمن.
لقد تبعثر الشعب في عصابات اجتماعية تحمل يافطات هويات فرعية، تكسب منها وتبتز بها، وتساهم في تقطيع أوصال الوطن وتدوس على هويته الجامعة. والأكثر ألماً في ذلك ان هذه المافيات السياسية الاجتماعية راحت تحصل رؤوسها على غنائم لم تكن لتحلم بها، غير آبهة بتداعياتها، وهو ما يدفعها الى ادامة الاعتزاز بهويات مكوناتها الفرعية.
قد يتساءل أحد ما: ما الذي يستوجب تقديس الهوية الوطنية، طالما انها لم تعد تستطيع الحفاظ على نفسها؟ أجيب بكل بساطة:
ان الاحتكام الى الهوية الوطنية الجامعة يقتل فينا شبح الخلاف والتناحر، ويدفعنا للعمل في اتجاه واحد، ويعزز فينا التعاون والتعاضد، ويزين في نفوسنا الفخر للانتماء لهذا الوطن في ماضيه وحاضره ومستقبله.
دهوك، 25.01.2025