تداوليَّةُ الحِجاج في المسار الابداعي
سامي شهاب الجبوري
لا يُمثل الحِجَاجُ نقطة تحوُّل عابرةٍ في تشكيل الخِطابات المُتنوِّعة ؛ بل هو رافدٌ أساسٌ في ارتهاناتِ التنظيمِ وتنسيقِ الأبعاد الدلاليَّةِ على وفق مَنظور صاحِبها والفلسفة المُتبنَّاة ، وبذلك فإنَّ وجودهُ يزيد من حركيَّةِ الفاعليَّةِ الفكريَّةِ ويجعلها خاضعةً لقواعد التحديدِ والمَساراتِ المُتناوبةِ التي مُهمَّتها إحداث التَّغييرات المَطلوبةِ في ذهنيَّة المُتلقي لتقبُّل هذه الفكرة أو تلك بحسب ما هو مرسومٌ لها ، أي أنَّ الحِجَاجَ مُتشعِّبُ الانتماءات فتجدهُ في الخِطاباتِ الفلسفيَّةِ والأدبيَّةِ والاجتماعيَّةِ والدينيَّةِ وهلمَّ جَراً ، ولتعدُّد هذه الشُّعب تأتي الحصيلةُ مُتَّشحةً بالفائدة للمُستهدَف الأول وهو المُتلقي ، ولتحقيق هذا المُبتغى لا يكتفي الحِجاجُ بآلية حشدِ المعلوماتِ الضَّاغطةِ لاستمالةِ العُقول التوَّاقة للمعرفة والاستزادة ؛ بل يعمل على مُراعاةِ الحال المَقامي للمُستهدَف ليتوغل في كَينونة الجذُور البانيةِ لثقافته ، فليستِ المُهمَّةُ مَحصورةً بطريقةِ تقديم الحُجج والبراهين بقدرِ ما هي مُهمَّةٌ مُنظمةٌ على وفقِ مَنظور الترتيب وايجادِ التوازن الذي يسمحُ بمعرفةِ المُتطلباتِ ومُحاولةِ تلبيتها ، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ بعد مَعرفة خصوصيَّة أحوال الذين يَحتاجون إلى الحُجَجِ في هذا الموضوع أو ذاك ، بُغية الوصولِ إلى نتيجةٍ سليمةٍ ومُؤثرة ، وفي ضوءِ هذه الخصوصيَّة نجد أنَّ الحِجَاجَ خِطابٌ يأخذ سماتهُ مِن الحياةِ اليوميَّةِ للنَّاس ، وعليه فهو المُحتوى المُتضمِّن لكُلِّ عمليات الثقافةِ والنتاجاتِ الفكريَّةِ المُعبَّر عنها بوساطة اللُّغةِ التي تجعلهُ في حالةٍ من الحريَّةِ لاتمامِ مَهامه ، فلولا تأقلم اللُّغة مع مُستجداتِ التحديث والنَّقلات المُتعاقبةِ المُؤديَّةِ إلى رفعِ كفاءتها لكانتْ الخطاباتُ تسيرُ باتجاهٍ واحدٍ لا يُعطي للأشياء والموضوعات قيمتها ؛ بل لا يُحقِّق هدفهُ المنشود وهو التأثيرُ وجذب الانتباه واستمالة العقول ؛ كما يفقدُ خاصيَّة الاقناع وأخيراً وأد عنصر التَّواصل في مَهده ؛ وهو عنصرٌ مُهمٌ في سُلَّمِ المعارفِ والفلسفاتِ والمناهج ؛ وعليه فالتلاعبُ اللُّغوي بكُلِّ أشكالهِ ومنها الحَشد المُنسَّق للحُججِ في النُّصوص كفيلٌ بجعل التواصل مِشْرطاً مُهمَّاً لتقارب الرُّؤى بين المُتباعدين ؛ وعلى وفقِ الامكانات التي تتمتَّع بها اللُّغة تبقى فرصةُ تنظيم الحُجج هي المرحلةُ الأكثر خطورة ؛ لأنَّ نثرَ الحُجج هكذا في النُّصوصِ من دون مُراعاة طبيعة الموضوعاتِ وظروفِ أحوال المَقامات ؛ يؤدي إلى تطبيع الأفكارِ بنمطٍ رتيبٍ غير مؤدلجٍ يسمحُ بسيطرةِ التشتُّت على أجواء النَّص ؛ أي أنَّ وجُودَ الحِجج في النَّص يخضعُ لسُلطةِ التنظيمِ والترتيبِ لتكون مُواكبةً لارتهانات الامتحان الذي يُسجِّل الأسبقيَّة لها من حيث التجدُّد والتأثير ، وإذا كان الخيارُ خلاف ذلك فإنَّ الحُججَ لا تكون إلاَّ معلومات مُفيدة بقدرٍ عامٍ لا ترقى إلى مُستوى النظريَّة الحجاجيَّة ، وهذا يعني أنَّ النُّصوصَ تحتملُ وجودَ الحُجج العامة المُنتثرة على أديمهِ مِن جهة ؛ وصفتها أنَّها مُفيدةٌ في معرفةِ توجُّهاتِ منظومةِ المعارف فيها على نحوٍ بسيطٍ وهادفٍ ولكن من دون إثارةٍ واقناع ، وكذلك تحتملُ الحُججَ المبنيَّة على تآزُرٍ تنسيقيٍّ مُؤدلجٍ من جهةٍ ثانية ؛ وصفتها أنَّها تخضعُ لسلسلةٍ مُتعاقبةٍ من الإجراءاتِ اللُّغويَّةِ والطُّرقِ التنظيميَّةِ المُبرمجةِ لتكون قادرةً على الاقناع وإدراك ما فيها من رموزٍ وإيحاءاتٍ كفيلةٍ بتعديل الأفكار التي سيطرتْ على عُقولهم لفترةٍ مِن الزمن . وبحسب هذه الازدواجيَّة نجد أنَّ (ديكرو) صنَّفَ الحِجاجَ بحسب أهميته إلى صنفينِ هما : الحِجاجُ العادي الذي يقوم بعرض الحُجج وتقديمها ويستهدفُ التأثيرَ في السامع ، فيكونُ بذلك الخِطابُ ناجعاً فعَّالاً ، وهذا معيارُ أوَّل لتحقُّق السِّمة الحجاجيَّة ، والحِجاجُ الفني الذي يدلُ على صنفٍ مَخصوصٍ من العلاقاتِ المُودَعة في الخِطاب والمُدرجةِ في اللِّسان ؛ ضمن المُحتويات الدلاليَّة ، وقد استند ديكرو إلى الحِجاجِ الثاني بوصفه المعيار الأساس في التَّعاملِ التداولي ؛ هذا الأمر يُفصحُ عن أهميَّةِ الحِجاج الذي يأتي بطُرقٍ التنظيمِ والمُوصلة بنظامِ التعالُقِ المُتدرِّج وصولاً إلى مُتطلبات السُّلَّم الحِجاجي ؛ وهو السُّلَّم الذي يكونُ مبنياً بحسب خطوات مدروسة تجعلُ من المفاهيم التي يحتويها قادرةً على التموضِع في ذهنيَّةِ المُتقبِّل وجعله مُشاركاً في ترتيبِ أوراق احتماليَّة جديدةٍ في المرحلة القادمة ، فالحِجاجُ الناجحُ هو ذلك الذي يأخذُ مرتكزاتهُ ويُقويِّها ويُعطي انطباعاته ويُوزعها ، ويكون مُواكباً لكُلِّ المُستجداتِ الطارئةِ والاشكالاتِ المُتعدِّدة ؛ ويعملُ على صقلها وتنقيتها من فضاءات الاحتمالات غير المُجدية ؛ ويُحاول تطويعها على النحوِ اللائقِ ويفرزن قُدراتها التي تخدم النَّص وتُغنيه لأداء مهامه على أمثل وجه . وهذه هي كينونةُ العمل المُتكامل .
وبحسب ازدواجيَّة طلب المَعلومةِ الدقيقةِ واللُّغةِ الناقلةِ لها تبرزُ أهميَّة الحِجاج من خلال تحفيزِ النشاطِ الذِّهني بسلسلةٍ من الحُججِ المُختلفةِ للوصول إلى نُقطةِ التَّماسِ التي تُحقِّق للفعل الانجازيِّ التداوليِّ هُويتهُ في التغييرِ والتأثير ، ويتم ذلك عبر بثِّ حُججٍ تُعزِّز من رصيد المُتلقي في موضوعٍ ما ويتفاعل معها وتُحقِّقُ لهُ مُبتغاهُ في التنوير والاستبصارِ من جهة ، أو تقديم حُجَجٍ مُناهضةٍ لرؤيته والسَّعي لدحضِ توجُّهاتها من أجلِ السيطرةِ والتمكُن والإنزياح عن بُؤرٍ أُحاديَّةِ التوجُّه والميل نحو التشظي الصانع للتعدُّد والمفاهيم المُتراكمةِ من جهةٍ ثانية ، ويتأصَّلُ الحِجاجُ في النُّصوصِ من خلالِ اتكائهِ على لُعبةِ الصناعةِ التركيبيَّةِ والانزياحاتِ الاسلوبيَّةِ وغيرها ؛ فهو يتوارى لانجاحِ مهمَّته خلفَ الاشتراطاتِ اللُّغويَّة التي تحملُ بين طيَّاتها أبعاد الإنشطار والتوسُّع والتداخل ؛ كونها قادرةً على التأرجُحِ وإرغامِ المُستهدف على مُجاراتها والسير خلف إجراءاتها وصيرُوة تشكليها ، والسببُ في اعتماد الحِجاج على قوةِ النَّسج اللُّغوي يعودُ إلى خاصيَّةِ الاقناعِ التي يتبناها كركيزةٍ أساسيَّةٍ في خِطابه ؛ فالاقناع لا يخترقُ الذهنيَّة ويُوصل مُبتغاه ما لم يكن مُستوعباً لأساسات اللُّغة بكافةِ تفاصليها وتوظيفاتها ، ولاسيما تلك التي تعملُ في إطارِ البلاغة ؛ لأنَّ الأساليب البلاغية له حظوتها في تغيير المفاهيم وايصال الدلالات والمعاني بطُرقٍ مُمتعةٍ ومُشوقةٍ وسريعةٍ في الوقت نفسه ، وهو ما يبحثُ عنه الحِجاجُ ويرتضيه ويتبنَّاهُ للخُروج بنتائج مُستساغة ومقبولة ، وهذا يعني أنَّه يقترض أساليبه من البلاغة ولا يُوازيها .
ولكي تنشطَ هذه الفاعليَّةُ يتبنَّى الحِجاجُ مجموعةَ خصائص تعملُ على ديمومةِ الاتجاهاتِ الفكريَّةِ والفلسفيَّةِ المَبثوثةِ في النَّص ، وأهمَّها وحدةُ الانسجامِ والتراتب المنطقي القائم على الانتقالِ المَدروسِ في السُّلَّم الحِجاجي ، أي السيطرة على مُقدمةِ البدء بوضعِ الحُجَّة وعرضها والمُراهنةِ عليها وصولاً إلى الخاتمةِ التي تخرجُ بنتائج داعمة لما تمَّ الابتداء به ؛ لتشكيل صياغةٍ مُتكاملةٍ فيها النضوجُ والمُحتوى القَضوي . وكذلك الاتكاء على عنصر التوجيه المُباشر بُغية استحصال نتائج مُرتكزة على العقلِ والمنطقِ مُهمَّتها تغيير المفاهيم وتأطير السُّلوكيات بحُزمةٍ من المُستجداتِ التي كانتِ غائبةً عن ذهنيَّةِ المُتلقي ، كما لا يُمكن تجاهل الموضوعيَّةِ والحيادِ الكامل الذي يجب أنْ يتمتعَ به صاحبُ الخِطاب الذي يُريد إيصالَ فِكرتهِ إلى الآخرين بأيسرِ الطُّرقِ وأفضلها للتقبُّل ، ويتأتَّى ذلك من خلال عرض حُزمة الحقائق والمُقاربات الفكريَّةِ والعلميَّة التي تُلامس ثقافة المُتلقي الرَّاغب بالمزيدِ منها لتدارُك المفاهيم المَغلوطةِ أو الساذجةِ التي تبنَّاه في وقتٍ سَابق ؛ وبفضلِ هذا التنسيق المُتكامل تتشكَّلُ في النهايةِ الرؤيةُ الكاملةُ التي جاء من أجلها الحِجاجُ وهو بناءُ أنظمة رصينة من المُثل والقيم التي تعمل على زيادةِ الوعي بالثقافاتِ المُتعدِّدة وأهميَّة الأخذِ منها والاستعانة بتقاناتها للوصول إلى مَراتب عُليا من التنويرِ الفكريِّ والنَّهضةِ المَعرفيَّةِ الصحيحة ، أي إنَّ الحِجَاجَ بوساطة مُمارسة ضغطه المُتواصل وحشدهِ للحُججِ في النصوص يكون بانياً لمَنظومةٍ مُغايرةٍ لتلك المَنظوماتِ التي اتكأتْ على أُحاديَّةِ الأخذِ والأُطر المَحدودة ، منظومةٌ تُحفِّز الرَّاغبين بالتطويرِ لبلوغ التعامل الجاد مع الحُجج التي تهدفُ إلى زيادةِ المعلوماتِ وتحسين الأداء الفكري لديهم ؛ بما يتناسبُ وحَجم الفلسفاتِ والتَّياراتِ المُختلفة .
جماعة كركوك النقدية