كانت فكرتي، التي طرحتها على القيادة اليمنية، أنَّ أفضل وسيلة للترويج لبلادهم تكمن في الثقافة. كشاعرة، أؤمن بأنَّ الشعر الحقيقي هو خير سفير حضاري وثقافي. ومن هذا الإيمان، جاء تنظيم أول مهرجان شعري عربي-ألماني، جمع بين غنى الثقافة العربية وعالم الناطقين بالألمانية من النمسا وألمانيا وسويسرا. أُقيم المهرجان في صنعاء عام 2000، مع فعاليات إضافية في العاصمة الاقتصادية لليمن، عدن، وحقق نجاحاً باهراً.
هذا الحدث الرائد ونجاحه المذهل دفع رئيس الوزراء اليمني آنذاك، الدكتور عبد الكريم الإرياني، إلى عرض منصب المستشار الثقافي عليّ في السفارة اليمنية في برلين. كانت مهمتي تعزيز التبادل الثقافي العربي-الألماني كوسيلة لدعم السياحة إلى اليمن. شغلت هذا المنصب بصفتي مستشارة للشؤون الثقافية والسياحية، ما جعلني دبلوماسية يمنية في السفارة اليمنية في برلين، رغم كوني لاجئة عراقية في ألمانيا في ذلك الوقت.
ومن رحم هذا المهرجان الكبير، الذي حضرته أسماء شعرية بارزة من العالم العربي ومن الناطقين بالألمانية، وُلدت مجلة ديوان، أول مجلة متخصصة في الشعر العربي والألماني، وهي جسر ثقافي جمع بين الأدب والفنون العربية والألمانية باللغتين. قدمت المجلة الشعر والفن العربي للقارئ الألماني بلغته، وعرفت القراء العرب بالشعر والفن الألماني بالعربية.
ولكن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لتغير وجه العالم. انقلبت السردية العالمية تماماً، حيث تم شيطنة المسلمين بشكل جماعي، وأصبح الإسلام لا يُنظر إليه كدين يُدرس مثل الأديان الأخرى، بل كأيديولوجيا عنف. تحمل العرب العبء الأكبر من هذا التشويه، حيث بات مصطلح “الإرهاب” علامة تجارية تُلصق بحضارتنا ولغتنا وشعوبنا في نظر الغرب.
امتدت هذه العدائية حتى إلى العامة من الناس. مثال على ذلك، امرأة ألمانية ظهرت في برنامج تلفزيوني وسُئلت عن سبب اقتنائها نسخة من القرآن الكريم، فأجابت: “لكي أفهم عدوي”. لقد أصبحنا أعداء، ومن عاش في الغرب خلال تلك الحقبة يدرك تماماً ثقل هذا الواقع.
رداً على هذا المنعطف الحرج، اقترحت على اليمن دعوة شخصية عالمية مبدعة ذات حضور إنساني، غونتر غراس، ليس فقط لأنه حائز على جائزة نوبل، بل أيضاً لمواقفه المبدئية إزاء الحياة والأحداث التاريخية والسياسية. كانت كلماته ذات تأثير كبير، ليس فقط في مجتمعه الألماني، بل على المستوى العالمي.
تخيلت أنَّ زيارة شخصية بهذا الحجم ستفتح حواراً حضارياً شفافاً وصريحاً بين حضارتين: العالم العربي (الشرق) والغرب. هذا الحوار لن يروج لليمن فقط – وهو تحصيل حاصل في أي مكان سيعقد فيه هذا النقاش – بل سيجيب عن الأسئلة الشائكة التي بقيت عالقة لدى الغرب حول العرب والمسلمين. كان الهدف مواجهة السرديات النمطية التي تربط العرب والمسلمين بالعنف والإرهاب، واستبدالها بسردية قائمة على الفهم والاحترام المتبادل.
غونتر غراس: جسر للحوار وموقف أخلاقي خالد وافقت اليمن على استضافة زيارة غونتر غراس الأولى في عام 2002، وتم التحضير لهذه الزيارة على مدار عام كامل. كان البرنامج شاملاً، واطلع عليه غراس بنفسه وأضاف إليه بعض الاقتراحات. لم يكن البرنامج بروباغاندا لليمن، بل ضم حوارات حقيقية حول الأدب والشعر والفنون، كما تطرق إلى قضايا حساسة بالنسبة للغرب مثل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. شارك في النقاش شخصيات بارزة مثل محمود درويش وغراس وأدونيس وغيرهم من الكتاب العرب والألمان.
جاءت الزيارة الأولى وسط أجواء أمنية مقلقة للغرب، بعد تفجير المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في عدن. نصحت الخارجية الألمانية غراس بعدم السفر، لكنه تجاهل التحذيرات وأصر على الذهاب لاكتشاف الحقائق على الأرض.
أحد طلباته الأساسية كان فهم رؤية الإسلام للفكر الجهادي والعنف ضد المختلفين. نظمنا حواراً مهماً مع القاضي حمود الهتار، الذي كان يقود مبادرة لإعادة تأهيل المقاتلين اليمنيين العائدين من أفغانستان وتطهير عقولهم من التطرف عبر الإسلام المعتدل. تركت إجابات القاضي أثراً عميقاً في غراس، مصححة العديد من المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والمسلمين.
كان لهذه الزيارة التأثير الإيجابي الكبير، حيث تحوّل غراس إلى داعية لفهم العالم العربي، خاصة اليمن. في معرض الكتاب في فرانكفورت عام 2004، قال كلمته الشهيرة:
””قبل أن أقرأ لكم قصائد أمل الجبوري، أدعوكم لزيارة اليمن. لا تصدقوا سرديات الإرهاب والعنف عن العرب. فنحن في الغرب أول من بدأ قطع الرؤوس خلال الحروب الصليبية”.”
هذه الكلمات أكدت التزام غراس بتقديم سردية أكثر عدلاً وإنسانية عن العالم العربي، وسعيه لردم الفجوات الثقافية عبر الحوار.
وفيما بعد، جاءت قصيدته الأخيرة التي واجهت بلا تردد ازدواجية معايير الغرب في تعامله مع إسرائيل مقارنة بالعرب والمسلمين، وخاصة فيما يتعلق باحتلال فلسطين وامتلاك إسرائيل للأسلحة النووية وتهديدها للسلام العالمي. كانت تلك القصيدة النص الأخير الذي كتبه في حياته، نصاً هزّ العالم بعمق تأثيره. تراوحت ردود الأفعال بين مطالبات بسحب جائزة نوبل منه، وتصريحات علنية من نتنياهو تحظر دخوله إلى إسرائيل، وتحركات جماعات مليئة بالكراهية تسعى لتشويه سمعته. ومع ذلك، كانت هذه القصيدة موقفاً أخلاقياً وتاريخياً جريئاً لم يسبقه إليه أي كاتب غربي بمكانته. لقد كان متقدماً على زمنه في اتخاذ هذا الموقف.
استبق موقف غراس حركات الطلاب والموجة الحالية من الرأي العام التي تقف الآن بحزم مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، وضد الهيمنة الغربية وكيلها بمكيالين. وعلى الرغم من الخسائر “المادية” التي تكبدها، خاصة في سوق الفن، فقد نال الاعتراف الأبدي من التاريخ الذي خلد اسمه ليس فقط كمبدع، بل كبطل للعدالة والإنسانية.
أما المؤامرات والأحقاد والحروب التي شُنّت ضد غراس بسبب قصيدته الأخيرة فقد انتهت إلى مزبلة التاريخ، بينما بقي غراس حياً في ضمير الإنسانية. لم يكن وحيداً أبداً. ويأتي هذا المعرض” ملكة سبأ الجديدة” الذي تستضيفه دولة قطر بعد عقد من رحيله، كتقدير لإرثه العظيم. فهو لا يكرّم إبداعه الفني فحسب، بل يحتفي أيضاً بمواقفه الأخلاقية الشجاعة والمبدئية في زمن اتسم بالوحشية والظلم. إنه احتفاء بصوت تحدّى السلطة وقال الحق في وجهها، وبرجل وقف، رغم كل الصعاب، على جانب الإنسانية والعدالة