في مديح الستين
وجيه العباس
قم أيقظ الصمتَ فالأصواتُ بعضُ ظُبا
وشقَّ ليلَكَ صدراً يُطلعُ الشُهُبا
أنرْ دياجي التي أطفو بها مقلاً
لولا التوحد كانت جنَّةً وربى
هدهد براحتك اليمنى أناملَها
وخل جرحك يستوفي الذي نُهبا
أقم على الليل فيه كل نائحةٍ
ندبت دمعتها الحرى فما نَدَبا
ما أنت في أخريات الدهر من عجبٍ
بل أنت منذ صباها كنتَها عجبا
أقم شهودك في معنى غرابتها
أن جئت فيها وأهلوها بها غُرَبا
لاتأملن من الغافين صحوتهم
جرت عليهم لياليها بما احتجبا
ولست منهم، ولكن أنت محتَسِبٌ
أن كنت فيهم، وماكانوك محتَسِبا
*****
يا أوَّلَ الصوت مذ كانت وما برحتْ
بك الليالي تثير الحرفَ والتُرُبا
ولا الطفولاتُ تغويه بما وهبتْ
إلا وشيبته أولى بما وهبا
وناظراً فيه يوميه بما بَعُدا
وباكياً فيه يوميه بما قَرُبا
وواثقاً إنَّه يفضي إلى سفر
وحاملا خشب التأريخ محتَطِبا
وإنه بين هذي ظنَّةٌ كُتبتْ
عليه، والغيب في ما دونه كُتِبا
من أي يوميك كان الزهرُ مفتتَحاً
وأي يوميك كان التربُ منسحبا
وأنت بينهما ظلٌّ، غوايتُهُ
أن كان عمن يراه فيه مغتَرِبا
وإنَّه في سواهُ عنه منشغلٌ
فقل بربك هل قايضته فأبى؟
أم كنت في عرصات الوهم قافيةً
ظننتها فيك أماً والخيال أبا
*****
أزح ثياباً تردّت في غوايتها
ولا أراك بها في الناس مستَلَبا
ودع قوافيك تنعى فيك أزمنةً
وكنت منها محلّاً للرحى قُطُبا
ما أنت والناس تغري فيك مُثقَلَةٌ
إلا وهانت، وظل السعفُ منسكبا
بي خضرة النخل رياناً بسعفته
فيما سواك تراه يورق الكُرَبا
وبي من الشعر حاناتٌ لشاربها
لو قام فيه نديمٌ أنَّه شربا
وبي تعلّاتُ من يدنيك ناحيةً
لكنه لسواها قطُّ ما رغبا
مالي وتبلغني الستون دانيةً
والطفل بين ضلوعي يعشق اللعبا
*****
الآن فيك وحسبي أنني وطنٌ
وإن أكن فيك يامولاي طرفَ خبا
تميلني فيك هذي الريح عابثةً
كما السكارى وقد هزت بها التعبا
واساقطتني على رمضائها قدرا
كأن جذعِيَ فيها يمطرُ الرُطَبا
هنا وبعض هنا جمٌّ وأثقلُه
ما أن تهاوى تراخت ديمةٌ وَ حَبا
ولمَّ فيها ينابيعاً وأطلقها
طيراً تطوف سجوداً دونه زَغَبا
وتلك روحي..”غريبة الروح” من زمنٍ
حد انثناءة بوحٍ تجرحُ القصبا
جرحي جنوبٌ كأن الله قال له
كن ايها الجرح في أسمائه لقبا
*****
اقول للقلب حسب الداء معضلةً
أني تلفّتَّ فيها ساء منقلبا
إني عهدتك جوّاباً بأوديةٍ
ما أن تقيم تولّي وجهَك الغَرَبا
مستوحشاً بين أطلالٍ وتحسبُها
مما أفاء عليك الحزنُ منتصبا
أنى وكيف استطالت من أرومتها
حتى تجلببتَ من أثوابها جُبَبا
أَأنتَ من كان حتى الطينُ صاحبُهُ
والآن تنفر حتى فيك من صحبا
غرابةً كنت بين الناس في جسدٍ
خالٍ من الروح إذ تمشي بهم خَشَبا
مافيك غربته يفضي إلى وطنٍ
ترى السواد غراباً فيه قد نعبا
توزعته الايادي فهو منتهبٌ
وأنت تبصرُ من أحوى ومن نهبا
وقد عرفتك لا تبقي على أحدٍ
حتى كأنك مذخورٌ لما سُلبا
والان أبصرُكَ المخذول جانبُه
بينا أقاموا عليه الحد والغلبا
*****
يا أيها اللا أسمّي فيك ناحيةً
حسبي بما كنت فيه سائراً لحبا
وكان صوتك فيما قلته بطلاً
وكنت فيه على علاته سببا
وكنت وحدك تغريها بعاصفةٍ
حتى ثقلتَ، وحتى أمطرتْ سحبا
وماوهبت بها جوداً، ونائلُه
كأنه كان فيها يبتغي طلبا
لكنما عقَّ فيه الجود إذ وهبا
واضمر الحقد مغصوباً ومُغْتَصبا
وماضممت بها جنحيك متسدا
حتى كأنك تخفي الجرح ملتهبا
*****
وأنت ياوطني الهيّاب مرتجزاً
يامن تردى بسعفات النخيل عَبا
يا أيها القاتل المقتول ديَّتُه
أنّا ورثناه سيفاً قاطعاً وإبا
والاضحيات له هذي الرقابُ دماً
والكربلاءاتُ فينا غربةٌ وسِبا
كنّاهُ عيسى صليباً قام يحملُهُ
بينا يجزِّرُ في أعناقنا إربا
وماتبرَّأ منا مثقلٌ وعلى
اكتافنا منه ما لا يوجبُ العتبا
*****
وأنت يامدن الموتى تعاوده
كأنه ساكن أحداقَها شُعَبا
من كلَّمَ الطين في الأولى وأفهمه
بأن كل صنيعٍ دونه عُقُبا
ومن تعرت لغات الكون في لغةٍ
بها توحد هذا الخلقُ وانقلبا
ومن إذا نَأت الاخرى بطلبتِهِ
لعاد واختصر الآمادَ فاقتربا
لولا الذي نطقت كل الحروف به
كان المسمّى على أبياته عُرُبا
وحسبه أنه من بعد مهلكة
فيها يقوم، وفيها ينتشي طربا
هذا أنا بعض مابي حجةٌ وبها
أجيء ثانيةً في خَلدِها قببا
من الرماد سيأتيني الدخان صدى
وأبعثنَّ على أحطابها لهبا